ربما كان اختيار تاريخ الرابع عشر من شباط “عيد الفالنتاين” متعمداً من قبل وكالات أنباء وصحف تناقلت خبر تجميد جنود أوكران حيواناتهم المنوية، كي تُستخدم في الإخصاب إذا قُتلوا في المعركة. على سبيل المثال، تناقلت تلك المواقع حالة الجندي الأوكراني فيتالي خرونيوك الذي قال أنه في مواجهة الموت شعر بالندم على شيء واحد فقط، أنه ليس لديه طفل. يضيف هذا الجندي، وهو حتى الآن من بين أكثر من مئة جندي قاموا بتجميد حيواناتهم المنوية: الموت ليس مخيفاً، لكن المخيف ألا تترك أحداً وراءك. يٌذكر أن روسيا أعلنت في نهاية العام الفائت عن تقديم الخدمة ذاتها مجاناً، لجنودها المقاتلين في أوكرانيا حصراً.
في توقيت نشر التقرير، بعد الصدمة الأولى للزلزال، كانت قد برزت سوريّاً مشكلة الأطفال السوريين الذين فقدوا عائلاتهم فيه، وعددهم غير معروف بدقة في انتظار إحصاء جميع المفقودين، أي أولئك الذين صاروا في حكم الضحايا تحت الأنقاض. يقتصر الحديث عن مشكلة الأطفال “فاقدي الأهالي جراء الزلزال” على أولئك الموجودين في تركيا، حيث كالمعتاد من الصعب العثور على معلومات مماثلة عنهم في الداخل السوري.
حسب أقوال ناشطين سوريين مقيمين في تركيا، بموجب القوانين هناك، يُؤخذ الأطفال ويوضعون في دور للأيتام. حسب هؤلاء، القوانين التركية “استناداً إلى الشرع الإسلامي” لا تسمح بالتبني، وعليه فإن مصير الأطفال هو البقاء في دور الأيتام حتى السن الذي يسمح لهم بالخروج منفردين. لكن لا نعلم مدى دقة هذه المعلومة، ففي بداية عام 2015 نجحت النجمة العالمية أنجلينا جولي في إنهاء المعاملات الخاصة بتبنيها الطفل السوري موسى، وكانت قبل شهور قد تعرفت عليه أثناء جولة على مخيمات اللاجئين في تركيا.
نجاح أنجلينا جولي في تبنّي الطفل موسى يمكن البناء عليه، فإذا كانت هناك مسارب قانونية للتبني فالراغبون فيه يستطيعون اقتفاء أثرها. وإذا كانت قد حصلت على التبني استثناءً، بدعم من سلطة نجوميتها، فهي قد قدّمت حالة تصلح للبناء عليها قانونياً. ونفترض أن السلطات التركية غير متشبثة بهؤلاء الأيتام الذين سيخرجون في النهاية بلا عوائل وبلا مجتمع يحتضنهم، وهذا الانقطاع التام قد يكون مناسباً لصناعة أنكشاريين، لا من أجل انطلاق شابات وشبان لا يُستبعد تلقيهم المزيد من الصدمات خارج أبواب الميتم.
ظهرت مبادرات سورية بهدف إنشاء دور أيتام من الأطفال الذين يتّمهم الزلزال، وهي مدفوعة بالاعتبارات الإنسانية، وبالحفاظ على سوريّة أولئك الأولاد المهدَّدة بالانقراض في المياتم التركية. لا يُعرف بعد مصير المبادرات الجديدة، وفي أحسن الأحوال تمنع العقلية السائدة تجاه التبنِّي مساهمات أفراد في التخفيف من أثر مشكلة موجودة قبل الزلزال وبعده، وموجودة في الداخل السوري تحت سيطرة الأسد أو خارجها، وفي مخيمات دول الجوار.
ثمة العائق المستند إلى الشرع الإسلامي، والالتفاف عليه حدث ويحدث سراً منذ زمن بعيد، أحياناً بالاتفاق مع دور أيتام، وأحياناً بالاتفاق مع أطباء في مستشفيات يعلمون بولادات غير مرغوب فيها. أي أن العائق الديني، المتمثل بالقوانين، يجري الالتفاف عليه، ليبقى العائق الاجتماعي الأوسع انتشاراً وتأثيراً. وهناك خشية متداوَلة من أن يفتح شيوع التبنّي أبواب تجارة الأطفال، إلا أن المتاجرين بهم في الظل سيجدون طرق أخرى لتجارتهم، ومنها التربّح من الأطفال تحت يافطة الدين بالحصول على تبرعات باسم جمعيات خيرية دينية، ثم لا تصل كما يجب إلى مستحقيها في دور الأيتام.
إذا توخينا الواقعية، نحن بحاجة إلى عدد كبير من أنجلينا جولي، من أجل مساعدة العدد المتزايد من الأطفال المحتاجين لأسر يعيشون في كنفها، أو المحتاجين لمساعدة ملحّة في أماكن تواجدهم. هذا الدور مناط بسوريات وسوريين يقيمون في الغرب، وقد يكون لدى البعض منهن ومنهم الرغبة في تبنّي طفل، والقدرة على تقديم حياة كريمة نسبياً له، أو لأكثر من طفل. يصحّ هذا على الأسر الراغبة، أو على النساء الراغبات حيث تسمح القوانين بوجود الأم العازبة.
من المستحسن بالطبع أن تتولى منظمات في سوريا ودول الجوار ومنظمات في أوربا تنسيق ذلك، مع حملة لدى السوريين ولدى الجهات الرسمية المعنية في كافة البلدان لتسويق مساعدة أولئك الأطفال وتغليب العامل الإنساني على العقبات الإدارية والقانونية. وستكون الجهود المبذولة من أجل هؤلاء الأيتام “أو اللقطاء في بعض الحالات” في خدمة التعريف بالأحوال المزرية التي يعيشها نظراؤهم من غير الأيتام، ولعل ذلك يجبر بعض الحكومات والمنظمات الدولية على إبداء قدر أكبر من الاهتمام بمعاناتهم.
قد ينقضي خلال أيام التعاطف الحالي تجاه مأساة هؤلاء الأطفال على خلفية الزلزال، ووحده العمل المنظم الممأسس يُبقي قضيتهم في إطار ما تستحق. الاستمرار يعني أيضاً في حالتنا مواصلة العمل في الغرب وفي دول الجوار، ما يُخرج العلاقة بين الجانبين من إطارها الموسمي، خاصة لدى سوريين لم تبق لهم أية صلات عائلية بالداخل السوري.
مشروع من هذا النوع لن يكون سهلاً، وسيُواجَه بمختلف العقبات، لذا يمكن الاستئناس بدايةً بتجارب التبنّي عن بعد، وهو يُستَهلّ بالشقّ المالي، يليه تدرّج حسب ما تسمح به الظروف. في هذا النوع يمكن أن يتبنى شخص في أوروبا “مثلاً” طفلاً في الداخل السوري أو في لبنان أو تركيا أو الأردن، من خلال جمعية أو منظمة تتولى التنسيق، وتحقق معايير الشفافية على الجانبين. ذلك قد يبدأ بتقديم معلومات موثوقة لكل طرف عن الطرف الآخر، وبعد مدة كافية من الالتزام يتم التعارف عبر وسائل الاتصال، ليزيد التواصل المباشر من منسوب الالتزام والثقة، وليفتح أمام بناء المشاعر على الجانبين.
في ظل الشكوك التي تُثار حول غالبية منظمات الإغاثة السورية، سيقدّم هذا النوع من المساعدات طمأنة للمتبرّع، فهو يعلم بالضبط كم ولمن تذهب أمواله، وقادر مباشرةً على التأكد من ذلك. ويمكن توسيع مجال وساطة المنظمات لتشمل أطفالاً محتاجين يعيشون في كنف الأبوين أو أحدهما، وبدل علاقة التبني يمكن اختراع قرابات أخرى تمنح العملية طابعاً إنسانياً حميماً، والسوريون أصلاً يستخدمون تعابير مثل “عمة، عم، خالة، خال…” في الكثير من الأحيان بدون وجود قرابة دم.
لا يلزم من أجل ما سبق أن يكون للمتبرّع ثراء أنجلينا جولي، وما نقترحه قد يعمّق الفائدة على الجانبين، إذ يمنح المتبرّع مقابلاً عاطفياً أو معنوياً له عنوان واضح. أما ما بدأنا به المقال عن تجميد الأوكران نطاف الجنود فهو من أجل الشريحة التي تحرف هذا النقاش عادةً في اتجاه لوم مَن ينجبون الأطفال في ظروف سيئة، متجاهلين أن هذا هو الوحيد المتاح لدى البعض كأثر لهم في الحياة.
*المدن