عمر قدور: غرام من طرف واحد

0

لم يتعلم الغرب، ولا يبدو في سبيله إلى التعلم، من الدرس الذي تقدّمه الموجة الجديدة من الثورات العربية. في الجزائر، حيث لا يأتي من فراغ إصرار الجزائريين على دعم باريس الطغمة الحاكمة، تعاملت الأخيرة مع الثورة بمنطق تبديل الواجهة، واستنزاف قدرة الشارع على الاستمرار في الاحتجاجات. باريس ذاتها، التي كثيراً ما أصرت على إظهار رعايتها لبنان، بقي انشغالها بثورة اللبنانيين في المستوى الأدنى، وضمن سعي إلى ما يتيسر من إصلاحات اقتصادية، مع محاولة التوفيق بين أركان التركيبة السياسية بما تمثّله من امتدادات خارجية، ومن دون انتباه أو اكتراث بحيثياتها الشعبية المتآكلة.

في العراق، حيث يتساكن نظرياً العَدوّان طهران وواشنطن، يتفاقم استخدام العنف ضد الثائرين، أيضاً مع محاولة احتوائهم بتغيير واجهة الحكم. الاحتجاجات الأمريكية المتأخرة، على العنف الذي تمارسه الميليشيات التابعة لطهران ضد العراقيين، لا ترقى إلى مستوى بقايا الوجود الأمريكي هناك، ولا إلى المسؤولية الأخلاقية عن نظام وضع الاحتلال الأمريكي أسسه، ولا ترقى بالطبع إلى مسؤولية واشنطن بوصفها القوة الأعظم دولياً، أو إلى العداء المعلن تجاه حكام طهران وتدخلاتهم الإقليمية.

يُتَّهم المتظاهرون في العراق ولبنان بأنهم أدوات لمؤامرة غربية، وكما نعلم يأتي الاتهام من قبل أدوات الجهة ذاتها التي لا تخفي هيمنتها عليهما. بينما في الوقت نفسه لا نشهد اهتماماً غربياً يدعم ولو بقليل نظرية المؤامرة وينقذها من تهافتها؛ هذا ليس ذكاء غربياً يهدف إلى تجريد أصحاب النظرية من ذرائعهم، فعدم الاكتراث بالثورات نابع من سياسات غربية صريحة جداً، وهي ليست ابنة اليوم بتوجهاتها العامة وإن كانت كذلك بصراحتها أو بذاءتها، أو ربما بفضل عصر المعلومات الكاشف عنها أكثر من قبل.

بالنظر إلى عصر المعلومات ذاته، يُفترض بالغرب أن يعرف ما لم يكن يعرفه من قبل عن المنطقة، وتحديداً عن شعوبها التي راحت تفصح عن تطلعاتها، سواء في الشارع أو عبر الوسائط الرقمية. هذه التطلعات وحدها تدعم نظرية المؤامرة، إذا أخذنا نزوع الثائرين هنا وهناك إلى الحرية والديموقراطية ودولة القانون، وطالما أن التاريخ يشير إلى أسبقية الغرب في تحقيق تلك المُثل، بمعنى أن ثائري المنطقة لا يخفون غرامهم بالنموذج الغربي، سواء أفصحوا عنه مباشرة أو لم يفصحوا.

إلا أن الغرب المحبوب، كنموذج متحقق في داخله، لا يبالي بأولئك الراغبين في أن يكونوا غرباً على نحو ما، ليبقى الغرام من طرف واحد. بل إن السياسات الغربية تدعم موضوعياً أو فعلياً القوى المناهضة للتغيير، وهذا ما ينعش نظرية المؤامرة المعاكسة لنظرية المؤامرة الأولى، وهي غير جديدة إذ يؤكد أصحابها القدامى والمستجدين على أن أنظمة المنطقة وُجدت جميعاً برضا أجهزة الاستخبارات الغربية. لا تخلو الساحة بين نظريتي المؤامرة من اجتهادات لا ترى الغرب كليّ القدرة، ينص بعضها على تراجع مكانة الغرب وتأثيره، في حين يشير بعضها إلى انشغال الغرب بأزماته الداخلية بالتزامن مع الثورات العربية، 

المسألة لا يمكن اختزالها باستئناف الغرب سياسات تقليدية إزاء المنطقة، وإعراضه عن المتغيرات العميقة فيها، هي أيضاً في عدم ظهور جهود فكرية غربية لفهم ما يجري في الجوار. لقد استسهلت شرائح واسعة في الغرب اختزال موجة الربيع العربي بصراع بين الاستبداد والتطرف الإسلامي، واستسهلت شرائح أخرى اختزاله بصراع إيراني-خليجي أو بصراع شيعي-سني، والقلة التي حافظت على قناعتها بثوراته بقي انحيازها أخلاقياً في المقام الأول ولم تقدّم جهداً فكرياً لافتاً، واضطرت في أغلب الأحيان إلى بذل ذلك الجهد من أجل إقناع الآخرين بأحقية تلك الثورات، أو بأحقية ضحايا الاستبداد بالتعاطف.

مع ثورات الجزائر والعراق ولبنان، سنفتقد حتى ذلك المنسوب من الاهتمام الذي لاقته ثورات الربيع العربي في مستهلها، رغم أن الثورات الحالية “بريئة” مما كان يُنسب إلى سابقاتها للتغطية على جوهر الصراع، بل يمكن “أو ينبغي” بدلالتها إعادة النظر في تطورات العقد الأخير. في الجزائر، شُفي الجزائريون من جرح مواجهة التسعينات بين العسكر والإسلاميين، وعادوا إلى مواجهة المشكلة الأصل متعينة بانسداد أفق النظام الحاكم منذ الاستقلال. العراقيون بثورتهم أثبتوا شفاءهم من الجرح الصدامي، ومن الصيغة التي تلت إسقاط صدام، ليذهبوا إلى جوهر النظام المطلوب، كذلك هو حال اللبنانيين الذين يريدون القول أن بؤس الصيغة اللبنانية ليس قدرهم المطلق.  

كيفما قلّبنا الوضع، لا تصعب ملاحظة أن المنطقة بأكملها تواجه انسداد أفق النظام القديم محلياً، وانسداد أفق السياسات الدولية المحايثة له، والتي لم تشهد تغيرات تُذكر في رؤيتها إلى المنطقة. مرة أخرى، غياب المجهود الفكري الغربي عن متغيرات المنطقة سيلفت الانتباه، وسيساهم في تكريس سياسات غربية محافظة، وقد شهدنا في السنوات الأخيرة تقدم أحزاب اليمين الشعبوي المعادية للاجئين، وكيف تستخدم هذا الخطاب لتحميلهم مسؤولية الأزمات الاقتصادية في الغرب، وتستخدمه خارجياً لاعتماد أنظمة المنطقة مع تقوية شوكتها لتصبح حارساً أعتى لمنع موجات اللجوء.

لطالما اتُهمت الثقافة العربية المعاصرة بالتبعية للغرب، وهذا مفهوم ومبرر في جزء منه عطفاً على تقدّمه، بل كان الغرب في العديد من الأحيان مرجعاً لمعرفة أبناء المنطقة بشؤونهم رغم كل الهجاء الذي وُجِّه إلى ما سُمّي بالاستشراق الكولونيالي وما بعده، ورغم مساهمة الغرب الأساسية في نقد الاستشراق على قاعدة نقده المركزية الأوروبية. اليوم نفتقد ذلك الموقع المعرفي المتقدّم للثقافة الغربية، لا لحاجة أبناء المنطقة إلى من يعرّفهم بها، وإنما بسبب الحاجة إلى جهد فكري أوروبي يؤسس لرؤية تواكب تطورات المنطقة، وتبني عليها تصورات لسياسات غربية مختلفة. 

مع الاحتفاظ بالأهمية الأخلاقية لمواقف مثقفين غربيين من الثورات العربية، تبقى الانحيازات الأخلاقية قاصرة، وقد تساهم في ترويج تعاطف موسمي، ما لم تؤسَّس على فهم جيد للتحولات التاريخية في المنطقة وملاحظة تشابكها مع أزمات الغرب الناجمة عن السياسات القديمة نفسها. لم يكن الغرب والمنطقة منفصلين منذ زمن طويل، لكن اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ كلٌّ منهما في قلب الآخر، ولا يخسر الشرق وحده بعدم إدراك الغرب هذا الواقع. 

المصدر: المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here