مع شهر رمضان من كل سنة يعاود أنصار حزبَي العرقسوس والتمر هندي نشاطهم، ويستعيد كلٌّ منهم محاسن مشروبه، ليقارنها بالمشروب الآخر الذي يراه عديمَ الفائدة في أحسن الأحوال. وفي أغلبها لا ينجو المشروب المنافس من ذمّ شديد لا يوفّر أحياناً الذين يشربونه، خاصةً أولئك الذين في المقابل يدافعون عن فضائل مشروبهم المحبَّب، ويبادلون الخصوم هجاءً بهجاءٍ أشدّ.
لا يُعرف بالضبط أصل الانقسام، ثم العداوة، بين شاربِي العرقسوس والتمر هندي؛ المرويات المصرية تشير إلى دخول المشروبين مائدة الإفطار في الزمن نفسه، زمن المماليك، وبعضها يشير إلى أن هذه المشاريب المستحدثة آنذاك حلّت على المائدة بدلاً من الخمر! أما في سوريا، حيث هناك فقر مدقع في المعلومات عن كل شيء، فلا نعرف جذور الانقسام بين الحزبين، وما إذا كان بتأثير من مصر؟
المؤكد أن الانقسام السوري حول المشروبَين لا يشبه ذلك الانقسام بين الحماصنة والحموية الخاص بأصل “حلاوة الجبن”، ولا الانقسام بين الحلبية والشوام الخاص باستخدام أو عدم استخدام الكمّون في طبق المحاشي. هو ليس بالانقسام المناطقي ولا الطائفي، ولا الدينى حتى، بما أنه يتسع لأنصار من أديان أخرى ومن غير المتدينين يفضّل البعض منهم هذا المشروب أو ذاك بصرف النظر عن مناسبته الرمضانية.
ولأنه انقسام على هذا النحو من الفردانية، يجوز وصفه بالانقسام الحداثي، من ضمن انقسامات حداثية نادرة جداً في بلداننا. وجه الحداثة فيه أنه انقسام شخصي الهوى، مبني على ذائقة وحرية اختيار فرديتين، والحديث هنا وهناك عن وراثته أو توريثه لا يعدو كونه نوعاً من المبالغة بقصد الفكاهة. فالحداثة، في وجه شديد الأهمية من وجوهها، هي انضواء الأفراد طوعاً ضمن تنظيمات أو تيارات، تتدرج نوعيتها واهتماماتها من الأحزاب السياسية وصولاً إلى “رابطة عشّاق الشوكولا السوداء” على سبيل المثال.
يمكن تقسيم التنظيمات الحداثية إلى زمرتين أساسيتين، الأولى تختص بالسياسة وصراع المصالح، ومنها الأحزاب والنقابات، والقسم المتصل بها من المنظومات الإعلامية. أما الثانية فتلاقي الاهتمامات الترفيهية، كالجمعيات الأدبية أو الفنية، أو تلك المخصصة لخبرات الطبخ والمشروبات والتذوق عموماً، وللأندية الرياضية حصة وافرة ومتزايدة من هذه الزمرة، بل أصبحت في العقود الثلاثة الأخيرة حصةً عابرة للحدود، وذلك ما نصادفه في بلداننا بتشجيع عدد محدود من الأندية العالمية، وعدد أكبر منه قليلاً من المنتخبات الكبرى لكرة القدم. بينما لا يندر في بلداننا ذاتها أن ينقسم تشجيع الأندية المحلية على أساس هوياتي، ديني أو مذهبي أو عرقي، ومن قبَل مشجّعي الأندية أو المنتخبات العالمية أنفسهم.
هذا جانب لم يأخذ حقه من نقاشات وجدالات السنوات الأخيرة، تحديداً تلك المتصلة بالسلطات القائمة والثورات عليها. فمن المعلوم على نطاق واسع أن سلطات الاستبداد المعنية كانت خلال عقود قد منعت عملياً الأحزاب المستقلة، وسيطرتْ على النقابات وأفرغتها من محتواها المهني والديموقراطي، فضلاً عن إحكام القبضة على القضاء والإعلام. بعبارة أخرى، كانت السلطات ذاتها التي ترفع شعارات حداثية، ويتهمها خصومها من الإسلاميين بأنها متغرِّبة، تفعل في الواقع ما هو مضاد لجوهر الحداثة، إذ تقوّض فرص الاجتماع الحديث بمختلف أشكاله، لا السياسي منها فحسب.
ثمة أثر ظاهر لنهج الاستبداد باستقرار الانقسامات الموروثة وتعميقها، مثل الطائفية والعشائرية والمناطقية.. إلخ، وهي جميعاً لا تحتاج إذكاء لها من قبل السلطة وفق مقولة شائعة، بل يكفي أن تمنع الأخيرة حرية وديموقراطية إنشاء التجمعات الجديدة العابرة للروابط القديمة كي ينتعش القديم من تلقاء نفسه. الانتباه إلى هذا الأثر يبدو ضرورياً مع شيوع فكرة رسوخ الانقسامات التقليدية بوصفها بنيوية، لا تحول ولا تزول، من دون رصد أثر منع السياسة الحديثة كمدخل لا بد منه إلى انقسامات واختلافات من نوع جديد عابر لاصطفافات القديم.
لا مصادفة في أن منع الجديد “بإحكام السيطرة على السلطة وعلى النقابات.. إلخ”، ومن ثم تعزيز القديم تلقائياً، يسير بالتوازي مع مراكمة مخزون من العنف، فالسلطة وهي تمارس العنف لفرض سطوتها تستجلب عنف المجتمع ولو تعذّر ظهوره كردّ فعل مباشر، أو لم يتوجه ضدها دائماً. نستطيع في سياق متصل وصفَ تلك الأحزاب والنقابات المستقلة الممنوعة كآلية امتصاص للعنف عبر إدارة الاختلاف والصراع سلمياً، أي أن وجودها المستقل هو إلى حد كبير شرط للصراع السلمي. وغيابها يجعل الصراع متوجهاً إلى رأس هرم السلطة، لأنه الممر الإلزامي لاستعادة باقي أجزائه، وهو ما يطعن في صلاحية العمل على استرداد السلطة “أو المشاركة فيها” بدءاً من أسفل الهرم وفق مقولات تحاول إيجاد ثغرة لا تستثير توحش الرأس.
ليست المسألة أننا منقسمون جداً، بل هي أننا فقراء جداً على هذا الصعيد، وممنوعون من امتلاك أدوات حديثة لإغناء الانقسام، ومن امتلاك مخيّلة تخترع تمايزات جديدة. ونكاد أمام هذا المستوى المبتذل من الاستبداد أن نستغرب السماح لمحبي التمر هندي والعرقسوس بالاستقلالية، وعدم إتباعهم بهيئات “حكومية” مسيطَر عليها. هو المستوى الذي جعل الواقعين تحت سيطرة الأسد يخافون من ذكر اسم مسلسل محسوب على المعارضة يُعرض في رمضان، فراحوا يشيرون إليه بتعبير “هداك المسلسل”، وهو المستوى الذي نرى فيه ممثلاً مصرياً يصرّح بالقول: “لما بيتعرض عليّا دور ضابط جيش أو شرطة مقدرش أرفض، ده شرف ليّا”.
بالطبع، من المحتمل جداً أن يكون بين محبي التمر هندي أو العرقسوس مَن هم منخرطون في الانقسامات التقليدية التي ذكرناها سابقاً، لكن مثال انقسامهم حول المشروبين يدل على إمكانية الانخراط في العديد من الانقسامات معاً، في حال توفرت الظروف، ما يضع كل انقسام ضمن حجمه المستحق، بلا تغوّلٍ على أصحابه. في انتظار أن يتحقق ذلك، عسى ألا ينقرض حزبا التمر هندي والعرقسوس، وقد تراجع الاثنان عن أيام العزّ، أيامَ كانت تُكتب لهما الأغنيات.
*المدن