المهلة التي وضعها أردوغان لانسحاب ميليشيات الأسد والميليشيات الشيعية، المدعومة جميعاً بتغطية روسية، انقضت سريعة وعصيبة. لم تتوقف تلك الميليشيات عند حدود سيطرتها التي كانت من قبل، بل قضمت مساحات واسعة إضافية من ريف إدلب الجنوبي، وبات من الضروري تحقيق اختراق مقابل من قبيل سيطرة الفصائل المدعومة تركياً على سراقب، لإتمام إيصال الرسالة عن جدية الإنذار التركي. إلا أن قصف رتل عسكري تركي مساء الخميس، وإيقاع أكثر من ثلاثين قتيل بين عناصره، فيه رسالة من موسكو تتجاوز بحزمها وقسوتها عدد القتلى السابقين من الجنود الأتراك.
ما يجدر ملاحظته أن الغارة على الرتل التركي أتت بعد تصريح للبنتاغون ينص على عدم وجود خطط أمريكية لنشر قوات على الحدود التركية-السورية، ولو صدقت موسكو في أن طيران الأسد هو الذي نفّذها فلن يكون ذلك خارج الدعم اللوجستي الروسي، وقد أتى لاحقاً ما يُظهر الدعم بتصريح روسي ينص على وجود الجنود الأتراك وسط “الإرهابيين”. تصريح البنتاغون أتى مخالفاً لتصريحات وزير الخارجية الأمريكي حول دعم أنقرة العضو في الناتو، والمقصود به عدم نشر بطاريات باتريوت على الحدود التركية-السورية لإغلاق المجال الجوي أمام الطيران الروسي، مع التأكيد على أن الوجود الأمريكي الحالي موجه حصراً ضد فلول داعش. قبل إعلان البنتاغون، كانت أنقرة صريحة في أنها تنتظر حل معضلة السيطرة الروسية على المجال الجوي، وهذه فقط هي المساندة التي تأمل أن تقدّمها واشنطن بعد أن حشدت من العتاد البري والجنود الأتراك ما يكفي.
إثر استهداف الرتل العسكري التركي، أعلنت أنقرة فتح حدودها من الجانب الأوروبي أمام السوريين الراغبين في المغادرة. هذا الضغط على الغرب يجب فهمه هذه المرة على خلفية فشل فكرة عقد قمة رباعية تشارك فيها باريس وبرلين إلى جانب موسكو وأنقرة، ومن الملاحظ أن نعي تلك الفكرة أتى من الكرملين، في حين لم تصدر ردود أفعال عن باريس وبرلين وكأنهما لم تكونا معنيتين بالطرح من الأساس. ما كان مأمولاً تركياً هو ممارسة أوروبا بعض الضغوط على بوتين، أو التوسط من أجل إنجاز تفاهمات جديدة تحفظ ماء وجه الطرفين المتصارعين، وتضمن للتفاهمات الجديدة مظلة أوسع من مساري أستانة وسوتشي اللذين انقضت مفاعيلهما.
لا نضيف جديداً بالقول أن مسار أستانة قد ألحق ضرراً بالقضية السورية يصعب تعويضه، وأن أنقرة لحساباتها الضيقة ساهمت في ما حدث، وأن ملايين اللاجئين السوريين الجدد هم من دفع الثمن. ذلك كله يجب ألا يحجب واقع انطلاق المسار واستمراره بمباركة غربية، وقد كان أفضل تغطية للمواقف الغربية المخزية والمقرفة من الملف السوري، إذ ليس أفضل منه لتبرئة الذمة وإلقاء تبعات ما يحدث على ثلاثي أستانة. لقد وجد الغرب ضالته في تركيا وروسيا، وحتى إيران، لتحمل كافة الموبقات في ملف لا يريد الانخراط فيه، ويكفيه منه أن يكون بعيداً عن تحمل موجات جديدة من اللاجئين.
خلال سنوات من مسار أستانة، لم يضغط الغرب سياسياً من أجل استئناف مفاوضات جنيف على سبيل المثال، والاجتماعات القليلة التي عقدها مجلس الأمن سجّل فيه مندوبو الغرب مواقف لفظية في الحد الذي لا يعكس أدنى رغبة لتحمل المسؤولية بحكم العضوية الدائمة في المجلس. كل ما فعله الغرب في سنوات اقتصر على التلويح بعدم المشاركة في إعادة الإعمار ما لم تكن هناك تسوية سياسية مقبولة، من دون السعي إلى إبرام التسوية المزعومة، أو تهيئة الظروف على الأرض من أجلها. ثمة إجراء آخر مثير للضحك والسخرية، هو إضافة أشخاص أو كيانات جديدة مرتبطة بالأسد على قائمة العقوبات الغربية، مع معرفة المسؤولين عن وضعها بانعدام تأثيرها. ما كان مؤثراً أكثر من الإجراء السابق هو تراجع المعونات الإنسانية التي كان الغرب يقدّمها، والتراجع أتى بمختلف الذرائع منها عدم تعاون أنقرة ومنها العراقيل التي تضعها موسكو أو تابعها الأسد، ليدفع اللاجئون في الداخل وبعض دول الجوار الثمن.
لا ننسى في السياق نفسه القوى الغربية التي راق لها من قبل تصوير الصراع في سوريا بوصفه صراعاً سعودياً-إيرانياً، أو شيعياً-سنياً، كنوع من التغطية على التخاذل عن التحرك إزاء مأساة السوريين، ويروق لها اليوم تصوير ما يحدث بمثابة صراع بين موسكو وأنقرة من الأفضل عدم الاكتراث به. المنطق ذاته يسود خارج الغرب لدى مختلف الذين يرون الأمر كلعبة عض أصابع بين بوتين وأردوغان، انتصر فيها الأول وعلا صوت الثاني طالباً النجدة من الغرب. قد تكتسب رؤية الصراع من هذا المنظور ثقلاً بالإشارة إلى ما نعرفه عن الطموحات الاستراتيجية الخاصة بالبلدين، أو ما بات مشاعاً عن تخلي الغرب عن المنطقة وتركها للتنازع بين قوى تسعى إلى ملء الفراغ. لكن هذا التحليل، فوق أنه يرى المقتلة السورية بكل مآسيها شأناً ثانوياً، يبرئ الغرب من مشاركته المرئية وغير المرئية في توزيع التركة، فضلاً عن الإبقاء على الأسد الذي لا تسنده القوة الروسية وحدها.
فتح أنقرة حدودها الأوروبية أمام اللاجئين السوريين فيه ابتزاز للغرب، ومن المستحسن رؤية طرفي التجارة، أي رؤية الغرب الذي خضع سابقاً للابتزاز تجنباً لتحمل مسؤولية أكبر إزاء الملف السوري. انهيار مسار أستانة لن يكون خسارة تركية صافية، هو أيضاً سيعيد وضع الغرب أمام التحديات التي تملص منها بفضله. لقد رفض الغرب مراراً فكرة أردوغان التي تنص على إنشاء منطقة آمنة، ورفض من قبل مطالب السوريين بتوفير حماية دولية لهم، وبارك بصمته صفقات تغيير ديموغرافي كالتي حدثت في الغوطة وعفرين وسواهما بما أن أولئك اللاجئين لم يقتربوا من حدوده. قبل انخراط أنقرة وموسكو مباشرة في سوريا، رفض الغرب إسقاط الأسد عسكرياً، ورفض حماية المدنيين السوريين بذريعة عدم رغبته في التورط على المنوال العراقي. الآن، حسناً يفعل أردوغان إذا امتلك شجاعة الخروج من ذلك التواطؤ بأكمله، لكن الخروج من منطق الابتزاز الصغير إلى الموجبات الإنسانية الأوسع يقتضي فتح الحدود التركية-السورية للراغبين في اللجوء إلى الغرب أمام مئات ألاف اللاجئين الذين يبيتون في العراء، وهذا أقل حقوقهم ما داموا قد فقدوا حق العيش بحرية وكرامة في بلدهم.
المصدر: المدن