انقشع الغموض الذي رافق الأيام الأولى من الغزو التركي شرق الفرات، فأعلن وزير الدفاع الأمريكي سحب معظم قواته من سوريا، وهو إعلان يفوق بالأهمية تغريدة متسرعة لترامب من المحتمل أن يفرملها أركان إدارته. إعلان وزير الدفاع يتوج ما غرّد به ترامب في مستهل العملية لجهة ما سمّاه انسحاباً من “الحروب السخيفة التي لا نهاية لها في سوريا”، وهو قرار سبق أن ظهر متلهفاً لاتخاذه وفُرمل من قبل مسؤولي إدارته الذين إما رضخوا لإرادته مؤخراً، أو أودت إقالة بعضهم بمعارضيه.
من يقرأ أو يستمع لتصريحات ترامب يظن أن جنوده، الذين لا يزيد عددهم عن ألفين، هم طرف في حرب سخيفة لانهائية، بل يشاركون في الحرب على حساب حماية حدودهم المهددة بحسب قول لترامب قبل يومين. بينما نعلم في الواقع أن الوجود الأمريكي في منطقة شرق الفرات وجزء من الجزيرة السورية لا يتعرض لأي تهديد، هناك تفاهم مستقر مع موسكو في ما يخص الطلعات الجوية لطيران البلدين، والتهديدات التركية باجتياح المنطقة سبق أن تم لجمها بتهديدات أمريكية من مسؤولي الصف الثاني وانصاعت لها أنقرة، وقوات الأسد والميليشيات الإيرانية لن تتورط في نزاع يكلفها غالياً مع الوجود الأمريكي.
من الجانب العسكري، هناك دول أوروبية كانت مستعدة لإرسال بعض جنودها لتعويض انسحاب نظرائهم الأمريكيين لقاء بقاء المظلة الأمريكية، وهناك دول خليجية مستعدة لتعويض نفقات البقاء الأمريكي، وهي أصبحت زهيدة بحكم انتهاء الحرب على داعش وتوقف العمليات العسكرية. بعبارة أخرى، لقد كنا إزاء الوجود العسكري الأمريكي الأقل كلفة على جميع الأصعدة، ويمكن وصفه بالوجود الرمزي لجهة العدد والعتاد، لكنه مؤثر جداً بحكم هيبة أمريكا التي تردع الأطراف الأخرى المنخرطة في الحرب السورية عن الاقتراب منه.
إذاً، يكذب ترامب “وهذه ليست أولى أكاذيبه” عندما يهوّل من حجم الوجود الأمريكي وكلفته، ويكذب عندما يصوّر قواته كقوات فصل بين أنقرة وميليشيات الحماية الكردية، لأن الأخيرة لم تكن على الإطلاق في وارد قتال تركيا عبر الحدود السورية. وبصرف النظر عن العداء التاريخي، كانت وحدات الحماية خاضعة كلياً للنفوذ الأمريكي، بل كان ممكناً لهذا النفوذ لو مورس أن يؤثر في سلوكها وأن يسحب العديد من الذرائع التركية، وأيضاً من مآخذ سكان المنطقة من غير الأكراد الذين كان يرون أنفسهم مقصيين عن المشاركة في إدارة مناطقهم.
إثر اتصال هاتفي بين ترامب وأردوغان، اتخذ الأول قرار الانسحاب الذي بدا كأنه هدية للثاني. التسريبات التي تلت الاتصال، ثم تهديدات ترامب أنقرة بعدم تجاوز الحدود المتفق عليها، كانت جميعاً تشي بصحة التسريبات التي نصت على إرضاء أنقرة بشريط يمتد بين رأس العين وتل أبيض، مع بقاء القوات الأمريكية في المنطقة ولو ضمن ما هو معلن لجهة التصدي للطموحات الإيرانية. عودتنا إلى مربع تغريدات ترامب في اليوم الأول تنقض ذلك التصور، فالأمر عملياً بات يتعلق بتقسيم تركة النفوذ الأمريكي بين أردوغان وقوات بشار، والقرار الأمريكي “إن وجد” هو في الإشراف على تقسيم التركة ليس إلا.
كان متوقعاً للانسحاب الأمريكي أن يدفع بالأكراد إلى حضن بشار، ذلك لا يتعلق فقط بالفرع السوري لحزب العمال أو قاعدته الشعبية، فحتى إذا تغاضينا عن العداء التاريخي الكردي-التركي لدينا تجربة مريرة ساخنة هي تجربة احتلال عفرين وما رافقها وتلاها من انتهاكات منتظمة في حق الأكراد تقوم بها فصائل مرتزقة لكن بإشراف ورضا تركيين. هذه أيضاً ليست خسارة من وجهة نظر تركية، فإذا كان أردوغان يفضّل بالتأكيد وراثة النفوذ الأمريكي كاملاً لتأمين دور أكبر في المسألة السورية فإنه يقبل بما هو أقل من ذلك ما دامت عودة الأكراد إلى الأسد تعني طي الملف الكردي وانتهاء مغامرة حزب العمال. لا ننسى هنا أن هذا السيناريو لا يرضي أردوغان وحده عن مضض، بل يرضي أيضاً معارضيه الذين يتقاطعون معه في الشأن الكردي ويرون “عن حق” في بشار شريكاً له باع طويل في التحكم والسيطرة على حزب العمال.
سيبدو ترامب حيادياً إذا قسّم تركته بين موسكو وأنقرة، إلا أن قراءة هذا السيناريو ضمن المستقبل غير البعيد تختلف عن قراءته آنياً. بالعودة إلى تلهف ترامب إلى الانسحاب بصرف النظر عن الضغوط التركية، من المعلوم أن موسكو هي أكثر طرف ينتظر الانسحاب الأمريكي، وأنها تتوق إلى اللحظة التي تستطيع فيها التمركز كقوة وحيدة عظمى وفرض الحل الروسي على الجميع. موسكو العاجزة إزاء الوجود الأمريكي ليست كذلك في مواجهة الوجود التركي عندما يبقى الوحيد الذي يقاسمها النفوذ وله حساباته الخاصة.
لقد رأينا من قبل “فضائل” التفاهم الروسي-التركي، حيث جرى استهداف مناطق ما يُسمى خفض التصعيد كافة، وأُعيدت إلى سيطرة الأسد باستثناء إدلب “مؤقتاً”. لن يكون هناك رادع أمام موسكو، في حال الانسحاب الأمريكي التام، يمنعها من استهداف كافة المناطق الواقعة تحت النفوذ التركي، واحدة تلو الأخرى بذريعة وحدة وسيادة سوريا التي تعلن أنقرة التمسك بها أيضاً. كالمعتاد، سواء حدث تفاهم تركي على إعادة تلك المناطق لموسكو أو لم يحدث، لن يمر هذا المخطط من دون سفك دماء ودمار كبيرين.
حتى مسار التسوية الحالي، الهزيل الذي لا يلبي أدنى تطلعات السوريين، لن يكون متاحاً إلا وفق ما تقرره موسكو. لقد رأينا العرقلة الحازمة لأية مفاوضات حقيقية خلال السنوات الماضية، رغم وجود القوات الأمريكية وقدرتها على البقاء وإعاقة المخطط الروسي، وأيضاً الضغط الاقتصادي على الأسد وحلفائه بالسيطرة على منابع النفط والغاز والمياه. الانسحاب الأمريكي هو هدية متنوعة المنافع، بما فيها إنقاذ بشار اقتصادياً، ولو من باب الوفاء ببعض الديون الروسية أو الإيرانية، من دون أن ينعكس ذلك على أوضاع الخاضعين لسيطرته.
لا نحيك نظرية مؤامرة بالقول أن ترامب يقدّم مواربةً الهدية الأثمن لصديقه بوتين، وقد يكون واقعياً ومفيداً تذكر تصريحاته الانتخابية التي ظهر فيها محابياً لبشار الأسد، وأيضاً رغبته في مغادرة سوريا قبل بروز الضغوط التركية الأخيرة، وهي رغبة لا تجد مبررات خارج لغة المقاولات وخارج الاتهامات الداخلية له بالتواصل مع الروس منذ ترشحه للرئاسة. ضمن المنطق نفسه، ها هو ترامب يرضي أردوغان بتخليصه من الهاجس الكردي، ويرضي بوتين بتسليمه سوريا كاملة. لا ننسى أن هذه القسمة ترضي أيضاً شريحة من الجمهور السوري، فأنصار أردوغان فرحون بسيطرة قواته ومرتزقته على جزء من التركة الأمريكية، وفرحون بإثبات مقولتهم أن الأكراد كانوا دائماً في حضن الأسد، رغم اتهامهم لهم إلى ما قبل أيام بالانفصالية، وبالطبع يفضّل الجمهور الكردي بأغلبيته الساحقة عودة الأسد على الاحتلال التركي. هكذا، بضربة مقاول، تعم الأفراح لدى الجميع!
*المصدر: المدن