عمر قدور: شرق الفرات.. تركي؟

0

بحكم الاعتياد على تهديدات أردوغان بتنفيذ عملية عسكرية شرق الفرات، لم يكن واضحاً ما إذا كانت تهديداته يوم السبت الماضي جدية أو نوعاً من ابتزاز إدارة ترامب. الأخبار الواردة منذ صباح الاثنين من المصادر الأمريكية والكردية تؤكد على وجود تنازل أمريكي، فالبيت الأبيض أعلن أنه سيسحب قواته من الحدود مع تركيا، وأنه لن يدعم عملية أنقرة المرتقبة أو يشارك فيها. هذا تعبير أقرب إلى الطرافة قياساً إلى معارضة واشنطن السابقة للعملية التركية، وأيضاً بسبب الأخبار الواردة قبل أيام عن دعم أمريكي للقوات الكردية، حيث بات لا يُعرف حقاً ما إذا كانت شحنات الأسلحة تلك قد سُلّمت لها أم بقيت في حوزة القوات الأمريكية التي راحت تعيد تمركزها بدءاً من تل أبيض ورأس العين.

إذا كان الاتفاق الأمريكي-التركي قد انعقد بتفاصيله فسوف تكون هناك منطقة حدودية محسوبة المساحة متفق عليها بين الطرفين، وسيتعين على القوات الكردية إخلاؤها طوعاً أو كرهاً. وضوح المسألة على هذا النحو قد لا يمنع تكرار سيناريو عفرين، فقادة الميليشيات الكردية أعلنوا قبل يومين نيتهم شن حرب شاملة على الحدود في حال أقدمت أنقرة على التنفيذ، وهؤلاء القادة سيجدون أنفسهم في موقع شديد الإحراج إذا أخلوا المناطق المتفق عليها بلا مقاومة بعد طول توعد للعدو التركي. 
مؤدى سيناريو عفرين هو الوصول إلى ما هو محدد سلفاً بعد جولة ضارية من القتال، سيدفع ثمنها العسكري الأكبر المقاتلون الأكراد ونظراؤهم العرب الذين سيهاجمون بإمرة الجيش التركي. السيناريو ذاته كنا قد رأيناه في العديد من الجبهات الأخرى في سوريا، حيث كان يصعب تنفيذ الإرادات الدولية والإقليمية من دون إخراجٍ يتطلب “معركة مشرّفة” يدفع ثمنها المدنيون وصغار المقاتلين.
صار من الفلكلور السوري أيضاً البحث عن كبش فداء للهزيمة، من نوع اتهام فصائل بالتخاذل بالمقارنة مع فصائل أخرى، أو رمي المسؤولية على فصائل إسلامية تم الاقتحام بذريعة وجودها. في حالة العملية التركية شرق الفرات الأرضُ ممهدة لانقسام مغاير، فمعظم الجمهور الكردي مهيأ أصلاً لرمي المسؤولية على الميليشيات السورية التي تعمل بإمرة أنقرة، بينما معظم الجمهور العربي متحفز للشماتة بالميليشيات الكردية، ومنه نسبة لا تكنّ الود لحكومة أنقرة وإنما دافعها موقف الميليشيات الكردية المناوئ للثورة منذ انطلاقتها.
ثمة اختلاف أساسي لا يجوز إهماله، إذا اقتصر التفاهم الأمريكي-التركي على المناطق ذات الأغلبية العربية. حينها سيكون الوجود التركي مشابهاً للتواجد في منطقتي جرابلس والباب، ولن يكون على شاكلة احتلال عفرين ذات الأغلبية الكردية الساحقة، بمعنى أنه قد يحظى بقبول من السكان الذين ينظر قسم لا يُستهان به منهم إلى القوات الكردية كقوات احتلال أيضاً ويشكون من انتهاكاتها وتجاوزاتها. على هذا الصعيد، كانت الإدارة الأمريكية قد ضغطت على القادة الأكراد من أجل مشاركة عربية فعلية وأوسع في الإدارة الذاتية، وقامت الرياض بدور وساطة مع العشائر العربية في المنطقة للغاية ذاتها، إلا أن الحصيلة بقيت هزيلة جداً وبقي القرار الفعلي لأولئك القادة، وهناك بين النشطاء الأكراد من يؤكد أن القرار الفعلي هو في جبال قنديل، أي بيد قادة حزب العمال الكردستاني التركي لا بيد فرعه السوري.
تروّج حكومة أنقرة غربياً لما تسميه المنطقة الآمنة، أو عمليتها المسماة “ممر السلام”، بوصفها الخطة الأنجع لحل مشكلة اللاجئين، وتتحدث عن إعادة مليوني لاجئ ستُقام لهم مساكن وبنية تحتية بكلفة 27 مليار دولار. لندع ما يُشاع مؤخراً عن تساهل أنقرة مع عمليات محدودة ومضبوطة لتهريب اللاجئين من أراضيها إلى أوروبا كنوع من الضغط؛ رقم المليوني لاجئ يصادف أنه يطابق تقريباً العدد المقدّر للسكان الباقين وللنازحين في إدلب، ويصادف أيضاً أن موسكو تمهلت في عمليتها في إدلب كأنما لتعطي فرصة للمفاوضات التركية-الأمريكية!
خطة أنقرة، على افتراض جديتها، تتعامل مع الأمر على قاعدة “سكان بلا أرض لأرض بلا سكان”، من يذكر تلك المقولة؟ ليس الأمر هنا كما يروّجه دعاة أكراد، أي توطين عرب على أراض عائدة للأكراد على مثال عفرين. فإذا افترضنا أن التوطين سيتم في مناطق شرق الفرات ذات الأغلبية العربية حصراً لن يتغير شيء سوى ما يخص الحساسية القومية، لأن تلك الأراضي لها أصحاب وملّاك، ولأن اللاجئين المساكين المعنيين ليسوا من أبناء المنطقة الذين يُراد إعادتهم إلى بيوتهم وأملاكهم.
لقد رأينا من قبل في تجربة الغوطة وعفرين تحويل قسم من مقاتلي الغوطة إلى مرتزقة، وتحويل اللاجئين المساكين إلى مستوطنين أعداء في عيون أصحاب الأرض. خطة أنقرة تعني الاستمرار في هذا النهج بصرف النظر عن الهوية العرقية لأصحاب الأرض، وإذا نحّينا جانباً الاعتبار الأخلاقي يصعب الظن بأن إنفاق مبلغ خيالي مثل 27 مليار دولار سيكون على حل مؤقت، بل الأقرب إلى الواقع “في حال تحقق الفكرة” أن ذلك سيُفقد اللاجئين الذي يتم توطينهم حقهم في العودة إلى أمكنتهم الأصلية، وسيكون توطينهم حلقة كبرى جديدة في سلسلة التغيير الديموغرافي، مع التأكيد مرة أخرى على أن إحلال عرب في أملاك عرب آخرين لا يخرج عن إطار التغيير الديموغرافي. الحق أن تخوف البعض من تقسيم سوريا، إذا كان تخوفاً أصيلاً ومبدئياً، يكتسب مبررات إضافية مع مشروع “المنطقة الآمنة”.
شهدنا في تجربة الغوطة وعفرين أيضاً تبادل النكايات بين الخاسرين من عرب وأكراد، ويُتوقع أن نشهد فصلاً جديداً في حال حدثت إعادة توزيع النفوذ بحيث تأخذ موسكو إدلب مقابل شرق الفرات. التقسيم الجديد لن يكون مستقراً على الأرجح، فتحقيق موسكو نصراً ميدانياً وإعلامياً بالسيطرة على إدلب لن يكفيها ولن يكفي طهران على المدى الأبعد. اقتسام منطقة شرق الفرات والشمال الشرقي بين النفوذين الأمريكي والتركي سيُبقي مناطق الثروة النفطية والمائية والزراعية بعيدة عن متناول دائني الأسد، في وقت بدأ فيه الانهيار الاقتصادي في مناطق سيطرة الأخير يظهر على نحو متسارع.
مع هذا التطور ستهتز التحليلات التي كانت تشير إلى إعادة سريعة لتدوير بشار الأسد، ومنحه السيطرة على كامل سوريا وفق تسوية مرعية دولياً ويقودها من الواجهة ثلاثي أستانة. التحليلات التي كانت تراهن على فرملة ثلاثي أستانة بالوجود الأمريكي في سوريا المفيدة اقتصادياً بدورها تفقد قدراً من أساساتها، فلا يُعرف ما إذا كان الانسحاب الأمريكي المحدود سيتبعه انسحاب آخر يتلهف إليه ترامب بخلاف أركان إدارته، مثلما يتلهف بشار إلى استغلال الفرصة الحالية واستعادة الميليشيات الكردية من المظلة الأمريكية. في هذه الأثناء يؤدي أكراد سوريا وعربها دورهم على أكمل وجه، فيزدادون انقساماً حول ما لم يعد لهم فيه قرار مستقل بعد أن أفلتوا فرصة امتلاكه خلال سنوات.

المصدر: موقع مدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here