حيّر أمر أهالي السويداء المحتجين منذ أسبوعين على إجراءات تقشفية جديدة أعلنتها حكومة الأسد، والذين رفعوا شعارات تتجاوز ما كان سببَ وقفاتهم الاحتجاجية إلى المطالبة بالتغيير السياسي أو الديموقراطي. هل هؤلاء الأهالي سوريون؟ أم دروز؟ وهل هم عملاء أمريكا حسب تلميح موسكو الأخير؟ أم هم عملاء إسرائيل بحكم القرابة مع دروز الأخيرة؟ نضيف إلى مَن يريد تبني الاتهام الأخير أن الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، قد وصل إلى موسكو بعد ظهر الاثنين قادماً من إسرائيل ليبحث في الكرملين ووزارة الخارجية الاحتجاجات الأخيرة في السويداء.
بعيداً عن الاستهلال الذي يصلح للإثارة لكنه عديم الانتباه إلى المؤثرات الخارجية الفعلية؛ لسوء حظ أهالي السويداء أن احتجاجاتهم انطلقت هذه المرة بينما العالم منشغل بتطورات الملف الأوكراني، وسوء الحظ لا يتعلق بعدم الاكتراث الإعلامي أو الدولي بهم، فهذه شكوى سورية عمرها سنوات أو حتى عقود. سوء الحظ هذه المرة يندرج ضمن سلسلة بدأت منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، حيث صارت القضية السورية ملفاً من بين ملفات الكرملين الطامح إلى استعادة أمجاد روسيا كقوة عظمى استعمارية. المصيبة أن سوريا طوال هذه السنوات كانت المكان الذي يقبض فيه بوتين، إما ليدفع في مكان آخر أو ليُدفع شرّه هناك.
يوم الثلاثاء الفائت أعلنت هيئة الاستخبارات الخارجية الروسية أن لدى المخابرات الأمريكية مخططاً سورياً لـ”استغلال الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية الصعبة لتنظيم مظاهرات حاشدة مناهضة للحكومة، ما يدفع أجهزة إنفاذ القانون خلالها إلى استخدام غير متكافئ للقوة بحق هؤلاء الذين سيتم في ما بعد تسميتهم بالمحتجين السلميين”. بعد ساعات قليلة من هذا الإعلان، صدر بيان عن الجنرال أوليغ جورافليوف “نائب مدير مركز حميميم للمصالحة” جاء فيه: “تفيد المعلومات الواردة بأن زعماء العصابات المسلحة المختفية يخططون لتنفيذ عمليات تخريبية تستهدف الموظفين والمنشآت للحكومة في أراضي محافظات حمص ودمشق ودرعا والسويداء”.
الرسالة الروسية موجهة بلا لبس إلى أهالي السويداء، إذ ليس هناك أي حراك آخر، ومفادها أن روسيا لن تهدِّئ من ردّ الفعل المعروف لشبيحة الأسد على المحتجين، وستتّهم المحتجين بأنهم عملاء لأمريكا. بتعبير آخر، موسكو الآن هي بثينة شعبان التي سبقت الآلة الروسية بتوجيه الاتهام ذاته. وبما أن روسيا منخرطة حالياً في لعبة عضّ أصابع مع الغرب فهي لن تغطي مخالبها بقفازات، وستسمح لشبيحة الأسد بإظهار وجهها الحقيقي. رسالة موسكو من أوكرانيا هي المزيد من التعنت على جميع الجبهات، أو في جميع الملفات، وعلى أهالي السويداء العودة إلى بيوتهم لئلا يكونوا ضحايا هذا التوقيت الحساس.
تبنّت هيئة الاستخبارات الخارجية الروسية، ثم مركزها في حميميم، سردية الأسد القديمة المتجددة برمي الاحتجاجات على مؤامرة أمريكية مزعومة، لا لأنها تستشعر أدنى خطر على المصالح الروسية في سوريا، أو حتى على سلطة الأسد، بل لأن الكرملين يريد أن يدرأ عنه أية شبهة ضعف في مستعمرته السورية بينما يظهر شهيته لابتلاع جزء من أوكرانيا على الأقل. ولئن كان هذا وقت التصلب فإنه لا يمنع الدب الروسي من التمييز بين أوكرانيا التي تتسابق دول غربية لنزع فتيل الحرب فيها وبين سوريا غير المدرجة في أولويات الغرب، ووفق هذا التمييز يكون للتصلب في سوريا آفاق للتكسّب الروسي، فيما لو نجحت الديبلوماسية “ولو مؤقتاً” في إبعاد شبح الحرب.
العكس غير وارد، بمعنى أن يتصلب بوتين في أوكرانيا ويبدي مرونة في سوريا، لأن الغرب غير معني بسوريا استراتيجياً، وما تريده واشنطن منها متحقق وغير واقع تحت التهديد. المطمع الروسي المتجدد هو أن تتخلى واشنطن عما لا تعتبره مكسباً لها، أي أن تنسحب من سوريا نهائياً، وربما يكون بايدن وبعض أركان إدارته ممن يحبّذون فكرة الانسحاب لولا ضآلة عدد الوجود العسكري البشري لقواته، ولولا هجوم داعش الأخير على سجن غويران الذي أظهر أن الحرب عليه لم تنتهِ بعد. ما دون الانسحاب، قد يحصل بوتين على تنازلات من نوع فتح توريد النفط إلى الأسد من الآبار التي تسيطر عليها قسد، أو حتى تراجع واشنطن عن موقفها الأخير الرافض للتطبيع العربي معه.
أهالي السويداء فهموا الرسالة الروسية جيداً، وبعد الوقفات الاحتجاجية ليوم الجمعة، قرر منظّمو الحراك التريث، وأصدروا بياناً للتريث وإعطاء مهلة لتلبية مطالب الأهالي ضمن ما وصفوه بـ”دولة القانون والمؤسسات لا دولة الفساد والمفسدين”. البيان والتوقف، أتيا بتسوية مع مشيخة العقل، مع التعهد باستمرار الحراك بعد المهلة، والتعهد من جهة مقابلة بعدم السماح باستغلال الحراك لمقاصد لا يسعى إليها أهله، والعبارة الأخيرة واضحة لجهة التنصل من الشعارات السياسية التي رفعها البعض من المشاركين. لقد وصلت الرسالة من جبهة أوكرانيا: لا ثورة.
إلا أن بيان التهدئة لم يلقَ صدى ملحوظاً لدى الأسد، فأول أمس تعرض و.ف.ط في مدينة شهبا، التابعة للسويداء، لإطلاق نار من مجهولين، ونجا من القتل. التعليقات على صفحة “السويداء24” التي نقلت الخبر يصب معظمها في توجيه أصابع الاتهام إلى السلطة، وبينها من يخاطب المستهدف بلهجة من يعرفه شخصياً، واصفاً المعتدين بخفافيش الليل، ما ينفي أن يكون الاعتداء جراء خصومة شخصية. بعض التعليقات أفصح عن التوجس من أن يكون الحادث بداية لحوادث مشابهة، والهدف هو ترويع الأهالي كي لا يفكروا في استئناف احتجاجاتهم.
التعزيزات العسكرية التي وصلت إلى السويداء في الأيام الثلاثة الأخيرة رفدت كل مركز من المراكز “الأمنية” بما يتراوح بي 150 و300 عنصر، وكذلك تم تعزيز الحواجز العسكرية العديدة المنتشرة في المحافظة بأعداد إضافية من العسكر أو المخابرات أو الشبيحة، فضلاً عن إقامة حواجز جديدة. من المؤكد أن الأهالي يفهمون رسائل الأسد المتعطش لإلحاقهم بمن سبقهم إلى الثورة عليه، ومن المؤكد أن الشيخ موفق طريف ذاهب إلى موسكو كي تردع بشار عما يتوق إليه. ذلك بينما ينشغل معارضو الأخير بتفسير دلالة بيرقٍ رُفع هنا أو هناك في وقفات احتجاجية، ويُضطر بعض المشاركين في الحراك للتأكيد على أنهم سوريون بأقصى ما يرمون إليه.
*المدن