اخترق حاتم علي، بوفاته قبل أسبوع، جبهة انقسام السوريين. موالو الأسد غضّوا النظر لأجله عن كونه لم يشاركهم مواقفهم، ونأى بنفسه عن البلد ملتزماً الصمت، ما يوشّر على الأرجح إلى عدم رضاه. في المقلب الآخر، كان خروج حاتم علي من سوريا وصمته كافيين، بل تجرأ كثر على اعتبار موقفه معارضة صريحة للأسد، بينما تكفّل آخرون بنقل مواقف حادة على لسان الراحل “يُفترض أنه أفصح عنها في جلسات خاصة” من دون أدلة عليها، لا من قبلهم ولا في السيرة المعروفة له.
لحسن حظ الراحل أن سلطة الأسد فعلت أفضل ما يمكن لها فعله في هذه الحالة، إذ سمحت بعودة جثمانه وعائلته لدفنه في دمشق، مع تجاهل رسمي يعكس مقداراً من عدم الرضا عنه. إلا أن المشاركة الواسعة لفنانين معروفين بولائهم في الجنازة ثم العزاء لا يمكن حدوثها خلافاً لمشيئة السلطة، مع عدم تكذيب المشاعر الشخصية لهؤلاء إزاء زميل عملوا معه، وجمعتهم به صداقة سابقة على الانقسام السوري، وربما لم تتأثر إطلاقاً به. رغم ذلك شارك في الجنازة أشخاص رأوا في حضورهم تعبيراً عن معارضة السلطة، وحتى ترحيباً بقدوم رمز لذلك الجزء السوري المهجَّر.
حمّى الحزن على حاتم علي اجتاحت السوريين، وجمعتهم على نحو غير متوقع. استحقاقه الحزن ليس موضوع مساءلة إطلاقاً، أما الظاهرة نفسها فشأن آخر. هي، ككل ظاهرة عامة، قد يتخللها بعض من النفاق أو المزايدات أو الاستثمار والتسييس، إلا أنها في هذه الحالة ما كانت لتصبح ظاهرة عامة لولا ارتكازها على وجدان جمعي لدى السوريين، ولو لم تسعفها اللحظة الزمنية بحاجة أولئك السوريين إلى استحضار وجدانهم، وربما حاجتهم إلى التفجّع المشترك في زمن بائس حقاً، من أجل كل ما يستحق حزنهم المشترك وغير المشترك؛ فرادى وجماعات.
يسهل الركون إلى فكرة الوجدان المشترك الذي كان حاتم علي واحداً من أميز المساهمين فيه، والأقرب إلى الراحة أن تؤخذ هذه الخلاصة كما هي في وقت يحتاج فيه السوريون ما يجمعهم. هذا أيضاً صنف من التواطؤ بمقاصد نبيلة، لا ينقصه الحنين إلى الزمن البهي للدراما السورية، أو استذكار إنجازاتها ونجاحاتها داخلياً وعربياً.
لنتذكرْ أن “نهضة” الدراما السورية قادتها أولاً شركات خاصة مملوكة لأبناء المسؤولين الكبار، قبل دخول الأموال الخليجية للاستثمار في قطاعٍ واعدٍ ربحياً. لنتذكر أيضاً أن عرض أي مسلسل يستلزم موافقة الرقابة في بلد العرض، وعلى الأرجح تكون الموافقة مطلوبة قبل التصوير في “بلد المنشأ”، ورغم شيوع الفضائيات بقيت الرقابات المتنوعة مهيمنة على صناعة الدراما من ألفها إلى يائها. بعبارة أخرى، لأسباب تجارية معروفة، نحن على الأرجح إزاء مسلسلات قادرة على عبور الرقابات العربية الأساسية والمؤثرة اقتصادياً، فضلاً عن الرقابة السورية، أي أننا نتحدث عن وجدان مشترك ساهمت في تأطيره أجهزة الرقابة تلك.
لنتذكرْ تالياً أن الرقابة على الدراما مشددة أكثر مما هي في قطاعات أخرى، لأن المسلسلات تدخل تقريباً كل البيوت، لذا تُراعى في صناعتها كافة الاعتبارات السياسية والاجتماعية والدينية من وجهة نظر الرقابات المتعددة. ما يمكن التساهل معه في كتاب أو فيلم، أو حتى مسرحية، لن يجد الفرصة ذاتها في مسلسل. الكلام عن تحايل على الرقابة، إذا صحّ، قد يجوز كاستثناء لا تتأخر في استدراكه وتعويضه، ودور الفنان الفرد في العملية برمتها يقتصر على مدى براعته الفنية ضمن الضوابط والقيود التي يعرفها جيداً، ويراعيها راضياً أو مضطراً.
الأسوأ مما سبق ذلك القحط الذي يجعل من الدراما في طليعة ما يصنع الوجدان المشترك، فلا نرى حتى على صعيد الإنتاج التلفزيوني تلك البرامج المفتوحة على الفضاء العمومي بقضاياه الحقيقية واهتماماته وهمومه، وهي برامج طالما صنعت شهرة محطات عالمية، بل أخذت مكانتها المستحقة حتى في بعض القنوات اللبنانية إلى جانب الدور الترفيهي التقليدي للتلفزيون. على الصعيد البصري، من المخجل الإشارة إلى العدد المجهري للأفلام السورية بالمقارنة مع نظيرتها المصرية، ومن المخجل أيضاً السؤال عن العدد السنوي للعروض المسرحية.
هناك وزارة ثقافة تشرف على السينما والمسرح، وعُرفت نسبياً بنوعية مطبوعاتها التي تطبع عادة من كل عنوان ألف نسخة، ثم ليصبح رقم الألف سقفاً لدور النشر الخاصة التي سُمح بها لاحقاً، وهذا كما نعلم رقم متواضع يُضاف إلى تواضع رقم العناوين التي تُطبع سنوياً. قبل ذلك، لدينا مدارس ومناهج مدرسية دأبت من خلال الشعارات على تصنيع وجدان عام أسدي، مع إهمال لكل ما يشجع التلاميذ والطلاب على البحث والتفكير، ولكل ما ينمّي مواهبهم أو يدفعهم إلى القراءة وتذوق الفنون، فوق تغييبهم عن سوريا الواقعية بأهلها وناسها وعاداتهم وطرائق عيشهم لصالح تسيد الشعار الأسدي.
خلال عقد منذ اندلاع الثورة، شهدنا بدموية نتاج ذاك الفقر المدقع كله، لا بتحارب السوريين فحسب، وإنما أولاً بالجهل المتبادل الفادح الذي يتنافى مع القول بوجود وجدان مشترك. قد يلطّف من ذلك تلك الملايين التي وجدت متسعاً من الوقت في ما مضى كي تستمتع بمسلسلات طويلة، مثل “الزير سالم” أو “التغريبة الفلسطينية” أو “الفصول الأربعة”، لكننا نحمّل المسلسلات وأصحابها عبئاً ليس من وظيفتها باعتبارها صاحبة إنجاز يتعدى ظروفها ويتعدى مكانتها المعهودة في أصقاع الأرض، ومن ذلك توهّم صناعتها وجداناً عاماً لمناسبة رحيل أحد رموزها.
يستحق حاتم علي الحزن الواسع الذي حظي به، ويستحق أن يُحترم خياره الخاص “السياسي”، حتى إذا كان نأيه عن “سوريا الأسد” تعبيراً عن كرامة شخصية أبت الإذعان والسير في التشبيح على غرار فنانين آخرين. ومن المؤسف أن تكشف لحظة الحزن الجامعة هذه افتقادَ السوريين ما يجمعهم، من المؤسف على نحو خاص أن تكون الدراما التلفزيونية “بكل ما نعرفه عنها” هي العنوان المشترك لهم. يا لفقرنا! يا لبؤسنا!
*المدن