أتى كنبأ صادم وساخر خبرُ الاتفاق بين لندن وباريس، يوم الاثنين الفائت، وبموجبه تدفع الأولى ما يزيد قليلاً عن سبعين مليون دولار لتزيد الثانية من دورياتها من أجل منع تدفق اللاجئين عبر بحر المانش. الترجمة الحرفية للاتفاقية التي وقّعها وزيرا داخلية البلدين هي أن لندن تدفع أجور الدوريات الإضافية، وكأن فرنسا بلد فقير غير قادر على دفع هذا المبلغ الزهيد بالمعايير الدولية!
غير بعيد عن الشق المالي السابق، تظهر باريس كحلقة لا أكثر من ضمن اقتصاد يتعلق بقضية اللجوء، ويقوم على “الرشوة”، أو على استئجار قرار سياسي لبلد آخر للتخلص من عبء اللاجئين. جدير بالذكر أن الأيام السابقة على اتفاق باريس ولندن شهدت تصعيداً كلامياً بين فرنسا وإيطاليا، هذه المرة على خلفية محاولات الحكومة الإيطالية التنكر لالتزاماتها بموجب اتفاقيات أوروبية تمنح روما مساعدات تتعلق بكونها مع اليونان البرّ الأوروبي الأول الذي يقصده اللاجئون القادمون من جنوب وشرق المتوسط. تريد باريس من روما القيام بواجبها “الإنساني” إزاء اللاجئين، لتأخذ لاحقاً حصتها المتفق عليها منهم، وهكذا تضمن عدم تدفق أعداد إضافية غير مرغوب فيها.
في خبر ضمن السلسلة ذاتها، يأتي مقترح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لتركيا، وينص على حصولها على إعفاءات جمركية في أسواق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا، لقاء إعطاء المزيد من فرص العمل للاجئين السوريين لديها. المقترح يهدف إلى تحسين شروط اللاجئين السوريين بما يحدّ من رغبة نسبة متزايدة منهم في مغادرة تركيا، خاصة مع التضييق المتزايد عليهم في الشهور الأخيرة والتلويح بإعادتهم إلى سوريا. سبق للاتحاد الأوروبي إبرام اتفاقيات مع أنقرة لوقف تدفق اللاجئين من أراضيها، أيضاً لقاء مبالغ مالية ضخمة، رغم أن استخدام ورقة اللاجئين في التجاذبات السياسية بين الطرفين طغى في العديد من الأحيان على الشق المالي.
الأسباب السياسية تُدفع في أغلب الأحيان إلى الواجهة، ومن ذلك تعزيز الفكرة القائلة بأن تدفق اللاجئين مسؤول في الدرجة الأولى عن صعود موجات اليمين المتطرف واليمين الشعبوي في أوروبا والغرب عموماً. هكذا يأخذ التنصل من استقبال اللاجئين بعداً “أخلاقياً” في السياسة الغربية، بوصفه ضرورة لمنع صعود اليمين المعادي للاجئين. في أحسن الأحوال، يُصوَّر التنصل من اللاجئين الجدد بمثابة حماية للقدامى منهم “الموجودين في الغرب” من صعود المتطرفين. اليمين المتطرف نفسه لم يتأخر عن استغلال هذا الخطاب، وعمل على استقطاب اللاجئين القدامى ليحموا أنفسهم من مغبة قدوم لاجئين جدد.
بالعودة إلى الشق الاقتصادي، وهو حاضر بقوة في حلبة التنافس السياسي الغربي، يقوم “الاقتصاد” المضاد للجوء على مبدأ توفير الأموال بدءاً من اقتصاديات الشمال الأكثر ثراء. هكذا تُحتسب الكلفة المستدامة للاجئ في هذه الدول، ويُحتسب ما يُقدَّم ككلفة لإعاقة وصوله إليها وإبقائه في دول أقل كلفة، ثم يسوَّق الفارق بينهما ربحاً اقتصادياً. للربح الذي تباهي به حكومات غربية في ملف اللجوء وظيفة تستكمل توجه اليمين المتطرف، فالأولى تمنع عملياً وصول اللاجئين كما يريد اليمين، وتجاريه في رمي مسؤولية المشاكل الاقتصادية عليهم وهو السبيل الأسهل للتهرب من استحقاقات اقتصادية بنيوية في العديد من الاقتصاديات الغربية المأزومة.
فوق الخطاب المعادي للاجئين، والذي صار تقليدياً مع الرشوة التي تسانده، أتت أزمة كورونا ثم حرب بوتين في أوكرانيا، لتعمِّقا الأزمة الاقتصادية في عموم الغرب، وليتفاقم التوجه المعادي للاجئين مع انخفاض حساسية أوسع تجاه معاناتهم في عموم الغرب. مما تضيفه أزمة كورونا ثم الحرب في أوكرنيا زيادةُ التغطية على المشاكل الأم التي تدفع أولئك اللاجئين للهرب في اتجاه الغرب، تحديداً الأوضاع السياسية منها. على سبيل المثال، صارت المقتلة السورية من الماضي، ومن ضمن قضايا قديمة مزمنة لا يُراد البحث عن حلول حقيقية لها تضمن على المدى البعيد وقفاً لتدفق اللاجئين.
اليوم، أكثر من أوقات مضت، من الصعب مطالبة الغرب بالمساعدة الفعالة لحل مشاكل سياسية أولاً تتسبب بتدفق اللاجئين، لأنه لم يفعل ذلك عندما كانت حكوماته وأحزابه أكثر انفتاحاً على العالم وعلى قضايا الحريات والديموقراطية فيه. وليس لدينا، من خارج الغرب، أصوات مؤثرة فيه لشرح قضية اللاجئين بأبعادها كافة. بمعنى أن كل الأزمات المولِّدة لظاهرة اللجوء ستتفاقم في البلدان الأم، في الوقت الذي تتضاءل فيها الحساسية الإنسانية تجاههم في بلدان الغرب، والأخيرة كانت لعقود بمثابة الحد الأدنى من التضامن العالمي.
مع الأخبار العالمية المتصلة بملفات اللاجئين، أتى خلال الأسبوع نفسه نصيبُ السوريين بمهزلة إضافية، عبر مجلس الإفتاء التابع للمجلس الإسلامي السوري “المعارض”. المجلس اعتبر “كل سفر لم يكن آمناً يُعرض حياة صاحبه إلى خطر الموت أو الضياع أو الغرق فهو سفر ممنوع شرعاً، ويأثم قاصده وطالبه”. ولأن طرق اللجوء المعروفة محفوفة بمختلف أنواع المخاطر، بل ستُضاف إليها مخاطر جديدة من عنف حرس الحدود التابع لحكومات اليمين الغربي، فإن كل لاجئ عبر هذه الطرق هو آثم.
لقد نال المجلس المذكور ما يستحق من تعليقات مستنكرة أو ساخرة، ولسنا في سياق التطرق إلى تهافته وتهافت ما يمثّل، وتهافت من يعتبرونه إطاراً معارضاً وناطقاً باسم الإسلام السني المعتدل! بعيداً عن ذلك كله، يقدِّم لنا هذا النموذج “المعتدل” نموذجاً عن التقارب والتساند بين الإسلاميين واليمين الغربي المعادي للاجئين، ولئن كان الثاني عديم الرحمة بهم في الأرض فإن فتوى المجلس الإسلامي تغلق أمام المؤمنين منهم أبواب السماء.
لا استثناءات، بحسب الفتوى التي نأخذها نموذجاً ليس إلا، فالمضطر إلى ركوب تلك المخاطر لا يعلم الحكمة من بقائه في مكانه الأصلي رغم ما يراه من مخاطر فيه، وإثمه أكبرإذا خاطر بحيوات من هو مسؤول عنهم من نساء وأطفال. أما المفسدة الأعظم فهي في اللجوء إلى الغرب، وتفضيله على بلاد المسلمين. ومع معرفتنا بأن البر الأوروبي هو مقصد السواد الأعظم من طالبي اللجوء، فإن هذه الفتوى تقول بالضبط أن هؤلاء ذاهبون إلى جهنم لأنهم آثمون. وربما يخرج علينا أنصار الاعتدال بالقول أن هذه الفتوى أرأف من المتطرفين الذين يرون في اللاجئين وسيلة لنشر الإسلام في الغرب الكافر، ما أن يتمكنوا من ذلك!
الواقع أن ما هو مخيف على المدى المنظور ليست جهنم التي يلوّح بها المجلس الإسلامي، المخيف هو الجحيم الذي في الأرض، والذي سيخلق موجات جديدة من طالبي اللجوء، ومن دول إضافية. بين جحيم الأرض والجهنم الموعودة في السماء، تقف الحكومات الغربية كحارس يزداد فظاظة أو عنفاً تجاه أولئك “الرعاع” الذين لا يستحقون اجتياز الأسوار نحو الجنة!
*المدن