قد يبدو مستغرباً القول أن العملة الأكثر استخداماً في سوريا الآن هي الدولار الأمريكي، الدولار الذي تلاحق سلطة الأسد مستخدميه والمتاجرين به من خارج حلقتها الضيقة. شحّ المعروض منه ليس بذي دلالة، فالأهم من وجوده كنقد متداول تعميمه كعملة مرجعية موثوقة، ما يوقع اضطراباً اقتصادياً أكبر جراء ندرته واشتداد الطلب عليه، أو بالأحرى توسع الطلب عليه لدى شرائح تستخدم تقليدياً العملة المحلية.
لم يعهد السوريون من قبل منظر بائع المفرق وهو يجري حساباً أو اتصالات قبل أن يخبرهم بسعر صنف يودون شراءه، وصار مفهوماً أنه إما يعيد احتساب السعر وفق سعر صرف الليرة مقابل الدولار، أو أنه يتصل بالتاجر الذي استقدم منه بضاعته ليسأله عن السعر الجديد، وذلك المورّد يقوم بدوره باحتساب السعر بموجب سعر صرف الليرة، وعلى الأرجح مع احتساب هامش إضافي تحسباً لارتفاع الدولار. وسيكون من السهل على المستهلك الذي ينتظر معرفة السعر أن يشعر بالنقمة على البائع، أو تاجر الجملة على الطرف الآخر من الخط، بعدّهما واجهة لعملية هو الخاسر منها بما أن علاقته بالدور تنحصر بالغلاء.
سلطة الأسد لم تقصّر في تحميل “المضاربين بالعملة” مسؤولية انهيار الليرة، لتأتي العقوبات الأمريكية قبل أيام كمشجب جديد جاهز لتُعلّق عليه أسباب التردي. تستثمر السلطة في فولكلورها البعثي الذي يشيطن التجار، ويشيطن التعامل بالعملات الأجنبية بعدّه نوعاً من التبعية. لكنها وهي تتنصل من المسؤولية غير قادرة على فرض استقرار نقدي سوى بأساليب مخابراتية، ولمدة لا تتعدى الأيام القليلة، وهي غير قادرة على توفير السلع الأساسية بما يتناسب مع مداخيل السواد الأعظم من السوريين، وغير قادرة على زيادة أجورهم بما يتناسب مع انهيار الليرة لأنها ستدخل مع التضخم الآتي في سباق خاسر.
نعلم أن المضاربة بالدولار تحدث في أوقات مضطربة، كما نشهد في سوريا ولبنان، والمضاربة تعبير عن الأزمة وإلا كنا نرى وجودها في كل الأوقات. المضاربون في سوق العملة وأصحاب النشاطات الاقتصادية عموماً ليسوا ملائكة ولا شياطين، هم أصحاب مصالح، لذا هم في غالب الأوقات عقلانيون أكثر من سلطات همّها السطو على الثروات العامة والخاصة، ومن المعتاد أن يؤدي جشعها إلى تردي الاقتصاد أو انهياره. مثلاً من مصلحة أصحاب الفعاليات الاقتصادية في سوريا توفر الدولار بما يتناسب مع الاحتياجات الفعلية، وبسعر غير متقلب يسمح لهم بممارسة أنشطتهم والتربح منها بلا مخاطرة. أي أن تقلبات سعر الصرف وانهيارات الليرة لا تصب في مصلحة النشاط الاقتصادي، حتى إذا استفاد بعضهم لمرة واحدة من ارتفاع مفاجئ في الأسعار.
الأزمات المالية والمضاربات الكبرى تحدث عادة في اقتصاديات ضخمة جداً، وتلك لها تحليلات مختلفة. أما في حالتنا فانهيار العملة المحلية يعكس عوامل اقتصادية بعيدة عن المضاربة، والأخيرة في كل الأحوال لا تعدو كونها عمليات متاجرة بسيطة في حين تحتكر السلطة، رغم إفلاسها، المخزون الأضخم من العملات الأجنبية. بشرح شديد التبسيط، العملة المحلية واستقرارها يعكسان الاستقرار الاقتصادي، أي وجود نشاط اقتصادي مستقر ضمن الحدود الدنيا، بصرف النظر عن ماهيته وما إذا كان إنتاجياً أو صناعياً أو خدمياً أو زراعياً. سعر صرف العملة المحلية وحده ليس معياراً، والمعيار ذو الدلالة هو ربطه بمعدل الدخل بحيث لا يفقد الدخل قيمته الشرائية الحقيقية.
بتبسيط آخر، عامل الثقة شديد الأهمية، والثقة لا تأتي من أسباب نفسية وإنما من معرفة بالوضع الاقتصادي. العمليات التجارية في سوريا يمكن تلخيصها بثلاثة مستويات، هي تجارة الجملة ونصف المفرّق والمفرّق، وباستثناء المستهلك الأخير من المعتاد ألا يكون السداد نقداً وفوراً، وطريقة السداد الآجل تنشط العمل التجاري وتقلل من الطلب على السيولة. في الأحوال العادية المستقرة تكون عمليات السداد من الأدنى إلى الأعلى بالعملة المحلية، وإذا انخفضت الأخيرة قليلاً فالفرق مغطى بهامش الربح أو أحياناً بالفوائد الموضوعة على البيع الآجل.
خارج مناطق سيطرة الأسد لدينا ما يوضّح العملية السابقة، ففي المناطق الخاضعة لتركيا مثلاً هناك استخدام ثلاثي للعملة، تُستخدم السورية منها في عمليات البيع الأخيرة للمستهلك بعد احتساب قيمتها إلى الدولار أو الليرة التركية. في الصفقات ذات السداد القريب يتم الاتفاق على السداد بالليرة التركية، أما السداد الآجل فالاتفاق عليه يكون بالدولار. هذا التوزع يعكس مدى الثقة بكل عملة من العملات المستخدمة، فالليرة التركية غير موثوقة لمدة زمنية طويلة بخلاف الدولار الذي يبقى هو المرجع الفعلي لعمليات التجارة والتسعير. باستثناء وجود الليرة التركية كوسيط في تلك المناطق، العملية ذاتها تحدث في أماكن سيطرة الأسد، فالتعامل الفعلي بين الحلقات الاقتصادية “قبل الوصول إلى المستهلك الأخير” يُحتسب فعلياً بالدولار لامتلاكه خاصية الثبات الضرورية للنشاط الاقتصادي. وهذا الاضطرار إلى اعتماد عملة موثوقة يزيد من الطلب عليها بالمقارنة مع الأحوال العادية، فالدولار الذي كان استخدامه يقتصر على الاستيراد سيصبح متداولاً في جزء من عمليات التجارة الداخلية.
ما يزيد الوضع سوءاً تلك الهوة بين المعروض من الدولار وازدياد اعتماده كوحدة قياس نقدية، أي أن محاولات سلطة الأسد السيطرة عليه واحتكاره لن تمنع اعتماده كوحدة قياس ومن المرجح أن تساهم في رفع سعره، وحتى إذا أعادت ضخ كميات منه فسيكون تحسن سعر الليرة مؤقتاً. في العديد من التجارب المماثلة، يندر أن تسترجع العملة بعد انحدارها ما يزيد عن 10% من آخر قيمة وصلتها، وفي سوريا حدث ذلك في الثمانينات عندما تهاوى سعر الصرف من أربع ليرات مقابل الدولار إلى خمسين ليرة لتستقر عليه، وفي أحسن أطوارها كانت ترتفع أحياناً إلى عتبة 45 ليرة مقابل الدولار.
شاءت سلطة الأسد أم أبت فإن العملة السورية التي تتحكم بطباعتها وضخها لن تكون هي المرجعية، الدولار هو العملة الحقيقية المستترة، ولن يكون هناك حل نسبي قبل إنهاء احتكارها وترك السوق لقوانينه التي تنشد بطبيعتها الاستقرار ولو بعد مرحلة من الاضطراب. أما الحل الجذري فلن يأتي قبل عودة الاقتصاد إلى دورته الطبيعية، وهذا يتضمن استعادة وحدة الأراضي السورية وعودة قسم من الرأسمال الذي هاجر والتقسيم المنصف للثروات العامة وإعادة الإعمار. حينها لن يكون سعر صرف الليرة مؤثراً كما هو الآن، لكن ذلك كله لن يحدث مع بقاء سلطة أقل ما يُقال فيها أنها تتفنن في اصطناع الأزمات وإنكارها.
*المصدر: المدن