ليست بالخبر العابر العودة “الطوعية” لمعتقل سابق إلى مطار دمشق، ليُعتقل مرة جديدة فور وصوله. بحسب ما نقله موقع “زمان الوصل”، عاد المعتقل السابق مازن الحمادة إلى مطار دمشق من برلين يوم السبت الماضي، بعد تواصله مع سفارة الأسد هناك، ليصل ليلاً ويُقتاد فوراً إلى جهة مجهولة. مازن الحمادة كان قد ظهر في العديد من المناسبات ليفضح التعذيب الذي يُمارس على المعتقلين في سوريا، ومنها هيئات حقوقية وبرلمانية، وهو أحد الناجين من المصير الذي لاقاه المعتقلون الذين ماتوا تحت التعذيب ضمن ما بات يُعرف بملف قيصر.
لا معلومات بعد عن تفاصيل ما حدث، باستثناء تأكيد من يعرفونهم “عبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي” على أنه لم يكن متوازناً في الفترة الأخيرة خاصة، وكان يتعاطى المخدرات بسبب أزمته النفسية الشديدة. وبصرف النظر عما قد يثيره موضوع تعاطي المخدرات من سلبية لدى البعض، ما هو مؤكد أن المذكور لم يكن في حالة من الاتزان تؤهله لاتخاذ قرار عقلاني، ومن الواضح أن أحداً من أعوان الأسد في أوروبا قد التقط صيداً ثميناً واستطاع التأثير عليه بطريقة ما لإعادته على هذا النحو.
من المتوقع أن تشتغل مخابرات الأسد على استغلال عودة مازن، ولا يُستبعد أن نراه قريباً على واحدة من شاشات تلفزيوناته ليدحض رواياته السابقة عن المعتقلات، وليعترف بأنه كذب تحت ضغوط أو إغراءات المعارضة وجهات أجنبية، وبأنه اكتشف مؤخراً التضليل الذي وقع فيه وقرر التوبة والعودة. أما مصيره بعد هذا السيناريو فلن يكون مهماً، هو لا يعدو كونه ورقة تُستخدم لمرة واحدة، على سبيل التنكيل الإضافي بالضحايا السوريين من قبل عصابة لا تريد إثبات براءتها أمام عالم لديه أطنان من الوثائق تتصل بملف الاعتقال. بعد الاستغلال الإعلامي، لن يكون مهماً إذا تمت تصفية مازن، أو أُبقي قابعاً في المعتقل، إذ هناك في المقتلة السورية ما يكفي من المستجدات ليصبح سريعاً طي النسيان.
ربما يكون أفضل توصيف لقرار عودة مازن هو أنه عند درجة من الوعي، أو اللاوعي، قرر الانتحار. هو لا ينتمي إلى صنف من المعارضة يقع تحت إغواء السلطة ليذهب طامعاً في مكسب، وذاكرته وجسده يحتفظان جيداً بآثار التعذيب السابق بحيث لا يكون مخدوعاً باستقبال مختلف. وهو قد فقد أفراداً من عائلته تحت التعذيب، ويعلم أن نجاته من المصير ذاته أتت بالمصادفة فقط، وأن النجاة من هؤلاء الوحوش لا تُكتب للمرء مرتين. إلا أنه على الأرجح لم يكن قادراً على الانتحار في هولندا، حيث كان يقيم، غير قادر على وعي رغبته وتنفيذها من تلقاء نفسه، ووجد في جلاده القديم الأداة الأمثل لانتحار تراجيدي من دون أن يُعنى بأبعاده التي تتجاوز ما هو شخصي.
قُيّض لكاتب هذه السطور القرب من حالة مشابهة في النتيجة، أي في قرار الانتحار مع اختلاف الحيثيات والمبررات. في خريف عام 2014 قضيت لثلاثة لقاءات ما يقارب العشر ساعات مع معارض قرر العودة، وتواصل لأجلها مع شخصيات معروفة على نطاق واسع بأنها من قوّادي المخابرات في بعض أوساط المعارضة، وحصل على ضمانات بعدم المساءلة أو التعرض للأذى عند عودته. كانت لذلك المعارض الراحل أسباب يأسه من رفاق في المعارضة رأى كيف تسلقوا الثورة وحصّلوا مكاسب منها، ولم يكن على الإطلاق ليأمن جانب سلطة سبق أن اعتقلته لسنوات. كان يضع الاعتقال مرة جديدة أمامه، مع أمل بأن يكون اعتقالاً مخفَّفاً يستطيع احتماله، بينما كنت أصرّ على أنه يذهب إلى الانتحار. في المرات الثلاث كان النقاش ينتهي بموافقته على كل الحجج التي أقدّمها، ليقول إنه مستعد لملاقاة الموت طالما أنه سيتمكن أولاً من احتضان أسرته، فلا أجد جواباً عقلانياً على ما هو حق عاطفياً.
كلما تذكرته، أتخيله راضياً بوفاته في المستشفى بسبب التعذيب الوحشي الذي وقع عليه لأكثر من أسبوع، بما أنه حقق أمنيته العائلية. لكن لا بد أن أتخيل بغصة مساراً مختلفاً لم يكن مستحيلاً وقتها، كأن يُبذل جهد حقيقي من قبل معارفه “ومنهم من تكسّب على الثورة” لإخراج أسرته بدل الجهد اللفظي الذي بُذل لثنيه عن العودة التي نعلم جميعاً أنها تعني الانتحار.
هو ببساطة: انعدام الأمل. هذا ما بدأت آثاره تنكشف مؤخراً، وستتسارع وتيرة انكشافه في المدى المنظور. ثمة كارثة إنسانية كبرى تغطي عليها كارثة إنسانية أكبر. الثانية منهما تمتد من القتلى تحت القصف الوحشي في الداخل، مروراً بما يقارب مليون نازح جديد، وصولاً إلى أولئك الذين لا يعرفون مصيرهم على وقع التفاهم أو عدم التفاهم الدولي والإقليمي على مناطق تواجدهم. ينضم إلى هذه الكارثة لاجئو المخيمات في دول الجوار، وهم تحت سيف العودة الإجبارية في أي وقت تُقرر فيه نيابة عنهم، وتحت ظروف مدقعة من العيش طوال الوقت.
الكارثة التي تغطّى بالمصائب الأعظم السابقة هي كارثة أولئك الذين يُنظر إليهم كفئة ناجية، لأنهم يعيشون في بلدان توفر لهم الأمان والحد الإنساني الأدنى للعيش. هم أنفسهم يخجلون من التحدث عن مصائبهم وهم يرون مصائب غيرهم، وعليهم أن يكونوا ممتنين بسبب نجاتهم، أو عليهم حتى تحمل الإحساس بالذنب لأنهم تمكنوا من النجاة التي استعصت على غيرهم. بعض من في الداخل يغبطهم بالمقارنة مع ظروفه المتردية، ولا توفر أبواق الأسد من كل صنف فرصة لإظهارهم كإنتهازيين يعيشون في بحبوحة.
الدول المضيفة أيضاً، بما فيها الأفضل، تعاطت مع اللاجئين كشرٍّ غير قادرة على تجنبه، وضمن الحدود الدنيا لكونهم بشراً. وهي، إذا أخذنا جانب حسن الظن، لم تكن مهيأة لمواجهة مأساة إنسانية بهذا الحجم، مثلما لم تكن مستعدة لاتخاذ قرار بمنع حدوثها في الأصل. لم يُفكَّر على نحو جدي في آثار الاقتلاع على ملايين السوريين، وفي أن هؤلاء الخارجين من جحيم الأسدية معطوبون والكثرة الغالبة منهم بحاجة إلى عناية نفسية، لا لأجلهم فقط بل أيضاً لأجل المجتمعات الجديدة التي أجبرتهم الظروف على أن يصبحوا جزءاً منها. هناك انشغال واهتمام غربي بمسألة اندماجهم أو عدم اندماجهم في المجتمع الجديد، من دون انتباه مماثل إلى قابلية الاندماج المنخفضة لدى الذين يرون وجودهم في المكان الجديد قسرياً، وأنهم أنفسهم قد تزداد قابليتهم فيما لو حدث تغيير يتيح عودتهم إلى سوريا وفضّلوا بحرية البقاء في أمكنتهم الجديدة.
خلال سنوات من محنة اللجوء، كان منسوب الأمل يتناقص، فلا أمل بتغيير في سوريا، ولا أمل بالعودة أو باتخاذ قرار حر بالبقاء في الخارج. هذا القهر فاقم وسيفاقم العطب النفسي لدى سوريين كثر، وظهرت نتائجه وستظهر تباعاً على نحو مأساوي. يعزز هذه النتيجة النظرة العامة إلى السوريين ككائنات بيولوجية يكفيها البقاء على قيد الحياة، كائنات مجرّدة ومتجردة اجتماعياً ونفسياً وعاطفياً. مع التذكير بأن مآسي هؤلاء الناجين يجب أن تُعتبر دائماً بمثابة ترف، إما بالمقارنة مع سوريين يتعرضون للوحشية الأسدية، أو حتى مع سوريين تتدهور أوضاعهم المعيشية تحت سلطة الأسد.
لعل عودة مازن الحمادة، أو انتحاره على هذا النحو، هي التعبير التراجيدي عن مأساة أولئك الناجين، وقد نشهد تعبيرات أخرى صادمة قد لا تكون من قبيل عودته، أي لا تحمل أي مغزى يمكن استثماره سياسياً أو فهمه سياسياً على نحو مباشر. عندما يضحي شخص بنجاته المزعومة كما فعل يجدر بنا رؤية الأهوال المقبلة، ومساءلة العالم كله عن المعنى الإنساني للنجاة.
المصدر: المدن