لا تصعب ملاحظة البرود الذي قوبلت به نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية على مقلب أنظمة تُحسب على المحور السني المفترض، بينما قوبل فوز بايدن بتفاؤل في أوساط المحور الإيراني، أو الشيعي كما يُسمى عادة. كأن ترامب كان أسد السُنة، وهذا لقب جرى تداوله من قبل البعض بعد الضربة العسكرية المحدودة جداً التي وجهها لقوات بشار إثر استخدامها السلاح الكيماوي، وأيضاً بعد اغتيال قاسم سليماني الذي ربما كان النشاط الخارجي الأبرز للرئيس المهزوم.
شاع، ولو على سبيل الفكاهة، أن يُكنّى بأبي إيفانكا، وهي سابقة في سجل الرؤساء الأمريكيين الذين حكموا وانقضت أيامهم من دون اكتراث “لدينا” بعائلاتهم أو أولادهم. التكنية باسم البنت لا تتوافق مع المزاج السُنّي المتخيّل، الذكوري بالضرورة، لكن التأنيث ليهون مقارنة مع سلفه “أبي حسين أوباما”، وهو لقب لا تغيب عنه الدلالة الطائفية إذ أتى مقروناً بالتوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، وبالتراجع عن الخط الأحمر الشهير عندما أقدم بشار الأسد على استخدام السلاح الكيماوي. في حين تفاقمت الضغوط الاقتصادية التي مارسها ترامب ضد طهران، وبقي ممسكاً العصا السنية من وسطها فاحتفظ بعلاقات حارة مع طرفي العداء السني-السني، أي مع أنقرة ومع الرياض والإمارات في الوقت نفسه.
بايدن كما هو معلوم كان نائباً لصاحب الاتفاق النووي، ومن المحتمل أن يعين أحد مهندسي الاتفاق الرئيسيين “أنتوني بلينكن” وزيراً لخارجيته، والعودة إلى الاتفاق النووي ضمن برنامجه الانتخابي، ما يُبشر طهران مجدداً بالتسامح مع تمددها الإقليمي مقابل تنازلات نووية. الصورة السائدة عن بايدن أنه آتٍ لإصلاح الضرر الذي سببه ترامب لإنجازات أوباما، ونصيب المنطقة من “الإصلاح” تقوية المحور الشيعي بعد أربع سنوات عجاف.
حسناً، ما سبق كله يندرج في سياق الهزل أو التنميط المبتذل أو الكليشيه. ومن السهل دحضه، فلا ترامب بالسني ولا بايدن أو أوباما بالشيعيين، ومن الكليشيهات الجاهزة “القاطعة المانعة” أن الثلاثة يوحدهم العمل من أجل المصالح الأمريكية، وهذا عامل تتضاءل أمامه الفوارق الفردية بين الرؤساء! ولا يندر في عموم العالم أولئك الذين يعتقدون بوجود دولة أمريكية عميقة لا تتبدل بتبدل واجهة الحكم، بل هناك في الولايات المتحدة نفسها من يرون ذلك ويدعون إلى الانقلاب الجذري عليه، مع أنهم قد يتضاءلون إلى حد كبير إذا استمر الانقسام الداخلي الأمريكي في مساره الصاعد.
لقد نال “أسد السنة” ترامب أصوات حوالى 70 مليون ناخب أمريكي، قسم من هؤلاء يُنظر إليه أمريكياً باستعلاء شديد، تماماً كما ننظر إلى بعض أبناء المنطقة الذين يفاضلون بين ترامب وبايدن على قاعدة ميولهما السنية أو الشيعية المزعومة. بعض من هؤلاء الأمريكيين مقتنع بوجود مؤامرة لإطاحة ترامب، وبعض منهم لا يحمل إيماناً عميقاً بالديموقراطية ما لم تُبقِ على زعيمه ونجمه المحبوب في الرئاسة. ما يوحّد نسبة كبيرة من أنصار ترامب إحساسهم أنهم أمريكا، أنهم الأمة، الأمة التي لا يتوانى الديموقراطيين عن التفريط بها من خلال التفريط بقيمها كما يتخيلها ويريدها هؤلاء الأنصار.
الانقسام الأمريكي حول قضايا مثل الحق في الإجهاض والحق في حمل السلاح، وقضايا الهجرة والأقليات عموماً، والمدى الممنوح للسلطة كي تتدخل في قضايا الضمان الصحي والاجتماعي… هذا الانقسام بات أشبه بالانقسام الطائفي “الهوياتي”، وبسبب احتدامه اقترعت في الانتخابات الأخيرة كتلة ناخبة غير مسبوقة الحجم والنسبة، كتلة من المؤمنين بما يمثله ترامب ومن الخائفين منه. الاقتراع ذاته توّج أربع سنوات من هيمنة اللعبة الديموقراطية على الديموقراطية ذاتها، فأنصار الحزب الديموقراطي في الكونغرس “وأينما كان لهم تأثير” عملوا على إعاقة حكم ترامب ونجحوا إلى حد كبير. السنوات الأربع القادمة تعِد بما هو مشابه، إذا تمكن الحزب الجمهوري من إبقاء سيطرته على مجلس الشيوخ في انتخابات الإعادة مطلع العام المقبل، يُستهل ذلك أيضاً بانعدام التعاون بين الخاسر والفائز من أجل انتقال سلس للسلطة، بهدف التأثير على الفترة الأولى من ولاية الثاني.
بحسب أنصار ترامب، ما يُسرق منهم ليس نصراً انتخابياً فقط، هي أمريكا التي تُسرق منهم، وهم أصحابها الحقيقيون لا مجرد شركاء فيها. شيء مشابه، غير معلن بفظاظة، نجده لدى أنصار الحزب الديموقراطي الذين يقولون: نحن لسنا مثلهم. لقد قالها بايدن أيضاً أثناء حملته الانتخابية، من دون أن تغيب عن هذه العبارة حمولة واضحة من الاستعلاء على أولئك “المحافظين الشعبويين، المتخلفين، قليلي الثقافة”. سيكون هزلياً بعض الشيء لو قلنا أن النبرة الاستعلائية في خطاب الديموقراطيين تذكّر بالنبرة الاستعلائية التي يستخدمها أقلويون في الشرق الأوسط تجاه الغالبية السنية، الغالبية التي في المقابل ترى نفسَها الأمةَ، وسط حالة من الاستقطاب تفتقر تماماً إلى الديموقراطية وإلى أشد ألعابها ابتذالاً أو شكلية.
في العديد من المحطات انعكس الاختلاف الأمريكي “الذي تعمق في السنوات الأخيرة” على السياسة الخارجية، فحساسية الديموقراطيين تجاه قضايا الأقليات مثلاً تردد صداها في النظر إلى قضايا خارجية من الزاوية نفسها. على سبيل المثال، واظبت وزارة الخارجية أيام أوباما على التأكيد على حماية الأقليات في سوريا، في حين ضمن المعيار ذاته كانت الإبادة من نصيب الأغلبية، ولا ندري إلى أي حد كانت الإدارة تنظر إلى المحور الإيراني بوصفه أقلية ضمن محيط من الأغلبية السنية.
لقد نال ترامب الحظوة لدى جمهور من السنّة مستفيداً من إرث طويل من عدم التفاهم بين الديموقراطيين وسنّة المنطقة، ربما ساهمت فيه سابقاً العلاقة الخاصة التي تربط اليهود بالحزب رغم أن الرؤساء الجمهوريين قدموا خدمات كبرى لإسرائيل للمزايدة على نظرائهم الديموقراطيين. خارج الولايات المتحدة، سنرى ذلك الود المفقود تاريخياً بين الأحزاب “التقدمية” في الغرب وشعوب المنطقة، لأن تلك الأحزاب لم تظهر حساسية عالية تجاه قضايا المنطقة أثناء توليها الحكم، بخلاف حساسيتها الإيجابية إزاء المهاجرين واللاجئين من أبناء المنطقة في تلك البلدان.
ذهاب ترامب وبقاء الترامبية ليس يتيماً، فاليمين المتطرف والشعبوي فاعل وبعمق في العديد من البلدان الغربية، وهو يقوض جزءاً من الديموقراطية بنوع من الاقتراع السلبي، على مثال الاقتراع لبايدن خوفاً من ترامب، وعلى مثال الاقتراع لماكرون في مواجهة لوبن. ويقوضها من خلال اتجاه الأحزاب الليبرالية لاختيار قيادات وخطابات “معتدلة”، أو بالأحرى تميل بتسارع إلى اليمين بذريعة سحب البساط من تحت الخطاب الشعبوي، ما يؤدي في الحصيلة إلى غياب مشروع مضاد جذرياً له. اللاجئون، المهاجرون، الأقليات، الأوضاع المضطربة في بلدانهم التي ستدفع بالمزيد منهم إلى الغرب، هذه من جملة عوامل تجعل المنطقة في صلب الانقسام الداخلي الغربي الذي يبدو كأنه يودع ماضيه لينذر بانقسام أشد وبأدوات قد لا تنقصها الشدة كنايةً عن التغير في طبيعته. وفق التنميط والكليشيه، كأن الغرب ينحدر في اتجاهنا بدل حدوث العكس. ترامب السني، بايدن الشيعي، أبو إيفانكا، أسد السنة؛ لعلها مفردات شعبويتنا وهي تواكب ذلك الانحدار.
*المدن