تبنى تنظيم داعش عملية الخضيرة، حوالى 50 كيلومتراً شمال تل أبيب، ولم يتبنَّ الهجوم في بئر السبع الذي سبق هجوم الأحد في الخضيرة بأربعة أيام. أحد منفذَّي الهجوم الثاني، إبراهيم إغبارية، سبق أن اعتقلته الشرطة التركية وهو يحاول العبور إلى سوريا للالتحاق بتنظيم داعش. أيضاً منفذ عملية الدهس والطعن في بئر السبع، محمد غالب أبو القيعان، سبق أن أدانته محكمة إسرائيلية بدعم داعش وأمضى في السجن أربع سنوات، إلا أن التنظيم حتى كتابة هذه السطور لم يتبنَّ ما قام به.
شرق مدينة الحسكة السورية، يوم الاثنين الفائت، كان مخيم الهول يشهد هجوماً لداعش أيضاً، استخدم فيه عناصره قذائف الآر بي جي في مواجهات عنيفة، خاصة في القسمين الرابع والخامس من المخيم. ربما يكون هناك شيء من المبالغة في تشبيه قيادين أكراد هجوم الهول الأخير بهجوم غويران على “سجن الصناعة” في الحسكة، إلا أن استهداف مخيم الهول الذي يضم ما يزيد عن خمسين ألفاً من عوائل التنظيم فيه رسالة مفادها عدم التخلي عن هؤلاء أسوة بعدم التخلي عن السجناء.
كانت الأخبار الواردة من سوريا أفادت بتزايد هجمات التنظيم ضد قوات الأسد والميليشيات الشيعية الداعمة لها في البادية السورية، وبأن تلك القوات سحبت أفراداً وآليات من محيط إدلب للزج بها في البادية حيث تعرضت لانتكاسات وخسائر. وحسبما هو معلوم عن الأسد فإن أولويته لم تكن يوماً قتال داعش، والاضطرار إلى سحب قوات من محاور أكثر أهمية له يكشف حجماً موجعاً من الخسائر وخشيةً من هزائم مقبلة، ومن المرجح ألا يكون لنقل القوات علاقة باشتعال الحرب على أوكرانيا وانشغال الحليف الروسي بها، وما يتصل بها من تهدئة على محور إدلب.
النشاط المتزايد لداعش يمكن ملاحظته، والانتباه إلى تصاعده، خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، أي منذ الإعلان عن مبايعة زعيم التنظيم الجديد “أبو الحسن الهاشمي القرشي” بعد أربعين يوماً من مقتل زعيمه السابق. وبذلك كان متوقعاً منذ الإعلان أن يشرع التنظيم في الإعداد لهجمات جديدة، بمعنى أن الدافع المباشر وراء الهجمات هو الإعلان العملي عن تولي زعيم جديد القيادة. هذا الدافع يزداد إلحاحاً مع التذكير بأن الزعيم السابق “أبو إبراهيم القرشي” قُتل بعملية للقوات الأمريكية إثر ما عُرف آنذاك بغزوة غويران، الغزوة التي خُطط لتكون اختراقاً إعلامياً ضخماً، فضلاً عن هدف تحرير قيادات التنظيم من “سجن الصناعة” في الحسكة.
فشلُ عملية غويران ومقتل الزعيم السابق ضربتان شديدتان يلزم لتجاوزهما أن يثبت الزعيم الجديد “أبو الحسن الهاشمي القرشي” أنهما لم تكسرا داعش، وأن يثبت شخصياً أهليته لقيادة التنظيم والتعويض عن الخسائر والهزائم التي مُني بها. لذا أتى الإعلان عن استمرار التنظيم بزخم ربما يكون الأقوى بالقياس إلى إمكانياته، والأهم من الأثر الفعلي للهجمات قد يكون الأثر المعنوي عند المستهدفين به.
على ذلك، رأينا في ما تلى الإعلان عن تولي الزعيم الجديد أولاً هجمات بدت روتينية في البادية ضد قوات الأسد والميليشيات الشيعية، وأيضاً كانت هناك هجمات متفرقة ضد قوات قسد، أو استهدافها بالألغام، وصولاً إلى تبني الهجوم في “الخضيرة” والهجوم على مخيم. بالطبع هناك فرق في الأسلوب، فهجوم الخضيرة أعاد إلى الأذهان تكتيك “الذئاب المنفردة”، في حين يذكّر هجوم الهول على نحو مصغّر بـ”غزوة غويران”، مع التنويه بأن المخيم يخضع لحراسة مشددة من القوات الكردية بإشراف القوات الأمريكية.
إذاً، بموجب ما يُراد لنا فهمه، أثبت التنظيم قدرته في ساحته المعتادة سوريا، وفي استهداف إسرائيل، علماً أنه مضى خمس سنوات على آخر عملية مشابهة ضد إسرائيل، وهي ليست ضمن أولوياته أصلاً. هذه رسالة لليائسين من أنصاره أولاً، ثم رسالة للجميع مفادها أن التنظيم باقٍ بقوة، وقادر على الضرب في آن واحد هنا وهناك، مهدداً على نحو خاص بأن ظاهرة “الذئاب الفردية” قد تعود لتؤرّق أجهزة المخابرات الدولية.
بالطبع، يكسب التنظيم باستهداف إسرائيل لدى شريحة من الرأي العام العربي المعادي لها، وهو بهذا يبتغي التكسب من القضية الفلسطينية لا خدمتها. ولا يلزم التأكيد على أن المقاومة الفلسطينية بسياقاتها المتعددة أعمق من أن تُحسب على تنظيم إرهابي قد يعثر على أنصار له بين الفلسطينيين أسوة بأي شعب آخر، وينبغي ألا يكون محرجاً القول أن عشرات الفلسطينيين على الأقل قاتلوا في صفوف داعش في سوريا. قد تستغل تل أبيب تبني داعش هجوم الخضيرة للسطو على موقع الضحية المستهدفة بالإرهاب، فتحجب حقيقة أنها وداعش مستفيدان معاً.
والتنظيم بحاجة لاستمرار عملياته من أجل تحرير أعضاء له معتقلين، أو أفراد عوائلهم المحتجزين لدى القوات الكردية. هي حاجته إلى موارد بشرية، لا يُستثنى منها ما يزيد عن عشرين ألف طفل في مخيم الهول، فضلاً عن الحاجة إلى نصر معنوي يستقطب أنصاراً جدد. يمكن تصنيف الهجوم على الهول كعملية نوعية متوسطة لا تؤدي الغرض المشار إليه، إلا أنها تعِد بعدم نسيانه وبالسعي إلى تحقيقه. الدافع الراهن المباشر هو التأكيد على أن اغتيال الزعيم السابق لم يُضعف التنظيم، بل ربما يكون الزعيم الجديد أشد بأساً وحنكة من سلفه.
الأستاذ هو اللقب الذي عُرف به الزعيم الجديد في أوساط التنظيم، واللقب “أستاذ داعش” أتى من استلامه إمارة ديوان التعليم عندما كان التنظيم في أوج انتشاره. لكن يُتوقع أن “الخليفة” الجديد اكتسب خبرات عديدة من تسلمه أيضاً ديوان القضاء والمظالم، ومسؤولية ديوان المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية، وهو بحسب ما هو متداول كان رئيساً لمجلس شورى داعش الذي يختار الخليفة. تتضارب الأخبار حول كونه شقيقاً لأبي بكر البغدادي، ومن المؤكد أنه كان مستشاره المقرّب، وأنه من بين ستة مؤسسين للتنظيم.
في أسابيعه الثلاثة الأولى، قدّم الأستاذ دروسه الأولى بلا تهور، وبلا بهرجة إعلامية، وبزخم عملياتي كافٍ. الأسابيع أو الشهور القليلة القادمة ستكشف لنا عن القدرات الحقيقية للأستاذ وللتنظيم، فإما أن تكون هذه العمليات استهلالاً للمزيد، أو مجرد استعراض مبالغ فيه للقوة يعبّر به أبو الحسن الهاشمي عن جدارته بمنصب الخلافة.
*المدن