يمكن القول إن هناك إجماعاً لدى علماء الموسيقا والأنثروبولوجيا مفاده أننا لا نعلم بدقة من أين أتت الموسيقا أو سبب نشأتها؟ وهل هي قبل الإنسان (هبة ربانية، جزء من هيولى الطبيعة…) أم هي إبداع بشري صرف؟
حفّزت الأسئلة السابقة مخيلة المستشار برهان آغا الأيوبي، الموجّه العام لمادة التربية الموسيقية في وزارة التربية، وصاحب رسالة الدكتوراة عن مفهوم “التفتّح الموسيقي”، إذ قام عام 2018 بإرسال كتاب رسمي إلى أعضاء الهيئة التدريسية لمادة التربية الموسيقي في أنحاء القطر، يدعوهم فيه إلى اقتراح قصص متخيلة وسيناريوهات متعددة لنشأة الموسيقا، كتمرين يخوضونه مع التلاميذ من أجل تحفيز مخيلتهم وتطوير ذائقتهم الموسيقية الاستكشافية.
نتعرّف على مضمون المراسلات والقصص المتخيلة التي وصلت إلى الأيوبي في البريد الرسمي، ضمن الحكاية الأولى من كتاب علاء رشيدي المعنون بـ”قصص تخييلية عن الموسيقا والحضارة”، الصادر هذا العام عن دار أطلس للنشر والتوزيع، وكما في كتابه السابق “فانتازيات اللهو بين السحر والحكاية”، يستكشف رشيدي موضوعاته بجدية تامة، وكأنّه يشير بدقة إلى موقعها في تاريخ السرد، إذ يشرح قبل كل حكاية المفهوم الذي يحاول أن يخاطبه وموضوع الحكاية.
وكأنه يُشير إلى شبكة من المعارف يسدّ نقصها، أو ما فاتها، بقصص متخيلة تتبنى الشكل الجدّي (مراسلات رسمية، مقالات صحفية، ملخصات أفلام، دراسات أكاديمية، أناشيد دينية…) ليخلق اللبس لدى القارئ، ويثير تساؤلاً حول كل العالم الذي تتحرّك ضمنه “النصوص”، فأيها المتخيل وأيها “الحقيقي”؟ ونقصد بالحقيقي ذلك المفترض أنه موجود خارج الكتاب ويمكن العودة إليه لسبب ما.
يحوي الكتاب عشر قصص مقسّمة حسب الموضوعات كما نقرأ في البداية، كل واحدة منها تحاول مساءلة الموسيقا وتاريخها وأصلها وتطورها عبر النصوص المحيطة بها، أو تلك التي تحاول التقاط لطائفها، خصوصاً أننا ضمن مساحة مجهولة كما ذكرنا سابقاً، لا يقين فيها حول الموسيقا سوى الذوق والإحساس، والأهم، المخيلة التي يستدعيها رشيدي سرداً ونصاً.
يراهن رشيدي على الشكل في قصصه، الشكل الذي يخلق الانطباع الأولي والوعد بالمضمون لمن يقرأ، فالمراسلات الرسمية مثلاً معنونة وموجّهة ومفصّلة وكأننا نقرأ ما تسرّب من ديوان أحد وزارات التربية، ثم نقرأ أيضاً اقتراحات لحكايات أطفال عن نشأة الموسيقا، ورحلة ذوّاقة وجامع موسيقي في الجهات الأربع مرفقة بأسئلة عن رحلته هذه، ناهيك عن الأبحاث الأنثروبولوجية والأفلام والمسرحيات.
كلها محاولات لرصد الموسيقا بوصفها موضوعاً سردياً يمكن تلمّس خصائصه في كل النصوص، وهنا يعود الانطباع الأوّلي للظهور، فالشكل الذي يختاره رشيدي ليس إلا دعوة للتشكيك بحقيقة الشكل نفسه ومدى علاقته مع الموضوع السردي، أي “الموسيقا”.
هذه الأشكال التي “يلعب” ضمنها رشيدي ويستدعيها، تخاطب النصوص الأخرى، لا فقط الروائية أو القصصية، بل تلك الهامشية التي تُستثنى عادة، إذ نقرأ مثلاً “النصّ” التعريفي على قرص مضغوط لموسيقا الشعوب، تليه تعليقات على طبيعة هذه الموسيقا وسياقها السياسي.
هذه الأشكال لا تكتفي بالإضاءة على “الفكرة” أو “المفهوم” الذي يحاول رشيدي اختباره، بل أيضاً تحيل إلى جسد كامل من المنتجات الفنية المتخيلة أيضاً، كالعروض المسرحية، الأفلام الوثائقية، فنون الأداء وطقوس الشعوب، وكأن الموسيقا نفسها كـ”موضوع” قادرة على الحركة بين مختلف أشكال التعبير، و”تظهر” كلّ مرة بأسلوب مختلف يكشف جزءاً من جمالياتها.
عالم رشيدي المتخيل يُبرز أيضاً علاقته مع النصوص نفسها، إذ تتنوع اللغة وأسلوب السبك والحبك، كأن نقرأ شعراً أو نشيداً، يليه وصف فيلم وثائقي عن طقوس سحرية تحاول اكتشاف الطبيعة وفك ألغاز موسيقاها. بصورة أخرى، يفترض رشيدي أن علينا التصديق، كجزء من عملية التخييل، ثم النظر إلى النصوص في الكتاب بأكملها كشكل من أشكال الأرشفة، ومحاولة سدّ فجوات في تاريخ الموسيقا عبر حرية التخييل نفسه، ذاك الذي تَعِد به الموسيقا دون أن نستطيع سبر حقيقتها بدقة، وكأنها مفهوم سردي عصي على الإمساك، يمكن فقط التأشير إلى أعراضها دون القدرة على “احتوائها” كلياً.
من وجهة نظر أخرى، يراهن رشيدي على موته كمؤلف، واختفائه الكلّي وراء النصوص التي تختلف بشدة عن بعضها البعض، ليظهر هو “كمؤلف” فقط في عملية الترتيب والاختيار، أما “حياة القارئ” فتكمن لا فقط في محاولته التعاضد مع النص لإكمال معناه، بل عليه السعي وراء كل ما يحويه الكتاب من نصوص، ومحاولة التنبؤ بمحتواها، إذ يختزل رشيدي من الكلّ جزءاً يكفي لأن يكون عتبة نعبرها نحو نصّ أكبر، نتخيّله/ ندوّنه نحن لا هو.
الإحالات الوهمية لنصوص تبدو هامشية أو لا تنتمي لعالم الأدب بالمعنى التقليدي، تحفّز الأسئلة لدى القارئ، فإن كان الكاتب يستطيع توليد نصوص مُتخيلة تمتلك شكل الجدّية حدّ الإفراط، إلى أي حدّ نستطيع التسليم بما هو “جدّي” والتيقن من خلوّه من المتخيل، ذاك الذي قد ينبع من رغبة شخصية أو انتصار للإنسان والحرية والموسيقا.
كما في حكاية الثيولوجي الدسّاس، الذي رمى عشرات السنين من الخبرة الأكاديمية وانتصر لجماعة من المخرّبين والموسيقيين، داعياً إلى أن الأصل في الموسيقا هو الإنسان دوماً، والآلهة عاجزة عن توليدها، وهنا تظهر قدرة رشيدي على استعراض مهارته في محاكاة النصوص على اختلاف أنواعها، ليدفعنا للتشكيك بكل ما قرأناه سابقاً، خصوصاً أنه، وبعكس النصوص الجدية، يعترف منذ البداية بأن ما نقرأه “قصصاً تخييلية”.
نتلمّس في الحكايات محاولة من رشيدي لتحرير الموسيقا من سياقها، وربما أيضاً الفنون بأكملها، بوصفها أشكال تعبير تخاطب الذوق، بعيداً عن السياسة والشرط الآني، أو المتغير الذي يهدّد أحياناً الذائقة ويحكم على العمل الفني من خارجه، دون النظر إلى جمالياته الخاصة وعلاقته مع باقي الفنون، هذه الدعوى للاستقلال الجمالي والحفاظ على الأثر الفنّي، قد تصل أحياناً حد افتداء النفس من أجل لحن أو أغنية، والحفاظ على أثرها في الزمن، وهذا ما نتلمّسه في عدة قصص تسبر علاقة السلطة مع الموسيقا.
يوجّه رشيدي الانتقاد بسخرية لمحاولات ضبط الذائقة، تلك التي تفرضها المقالات النقدية والأبحاث التاريخية في سعيها لربط المكونات الجمالية بالممارسة الواقعية، إذ لا تنكر الحكايات الاختلاف واللبس في قراءة العمل الفني أو الموسيقي، لكنها تراهن على مكوّن دفين داخله، شيء ما، يخاطب الذائقة الصرفة، المترفّعة عن التاريخ نفسه والسياق السياسي، وأحياناً الصراع البشري، انتصاراً للفنّ ومحاولة لتحريره من الأحكام المسبقة.
إذ تظهر الذائقة في حكايات رشيدي، سواء كنا نتحدث عن قراءة النصوص أو تخيل الموسيقا بوصفها جهداً عقلياً بداية، ورغبة بالمعرفة إلى حد أن تتعلق هذه القدرة المنطقية وتتلاشى على حساب الذوق بالمعنى الذي يقترحه جورجيو أغيمبين، (معرفة لا يمكن قياسها أو تحديد مصدرها).
هذه اللحظة، تتطلب من القارئ جهداً للوصول إليها، وهنا يمكن تفسير محاولات رشيدي دوماً الإشارة إلى الطريق وكيفية عبور العتبة العقلية نحو الذوق الصرف، أو التذوّق بوصفه تحرّراً من التاريخ والسياسة، وانغماساً كلياً في المعرفة الجمالية.
(رصيف 22)