(الأنوثة الخالدة تجذبنا إليها) لا يتذكر أين ومتى قرأ هذه المقولة لغوته، فاتخذها خارطة طريق للتمسك بهذا الانجذاب، مادام غوته جذبته الأنوثة، فحري بمثله أن يسعى إليها، تذكر قول غوته وهو يذرع الشرفة ويده تمارس حركات سريعة ورشيقة بتفريش أسنانه، حين لمح في الجهة المقابلة امرأة شابة تنشر غسيلها على شرفة شقتها، منهمكة في عملها، ملامحها محيّرة، لا تشي بالفتنة، ولا تبعث النفور، حيادية الحضور، أنهت ترتيب غسيلها على الحبال البارزة فوق الشارع، حاول أن يختلس النظر وهي تنحني لعله يحظى برؤية نهدين يتأرجحان من فتحة قميصها، إلا أن المسافة لا تسعف النظر، والقبّة المحكمة للقميص خذلته.. دلفت إلى الداخل ولم تجامله حتى بنظرة، كأن كل ما هو خارج بيتها لا يعنيها. أنهى تفريش أسنانه وعاد بصحبة قهوته الصباحية، جلس على الشرفة يرشف فنجانه بملل يحركه شرود حائر، تأمل الغسيل المنشور قبالته، رأى في الصف الثاني لحبل الغسيل وفي زاوية مخفية حمالة صدر سوداء اللون تتدلى باستحياء، أثاره منظرها فحرّك مخيلته وأفلتها ترمح في براري اللهفة، تمتاح من ودق الأنوثة ما يروي ظمأً تاريخيا يعود إلى عهد التفاحة، صار يقارن بين صدر المرأة التي شاهدها على الشرفة وحجم الحمالة ويتخيلها مربوطة حول صدرها، جنح في تفكيره إلى أسئلة غريبة، من هو مخترع حمالة الصدر؟ من هو مبتكر الكورسيه؟ من هندس التفريعات النسائية؟ -يجزم أن الرجل وراء كل هذه الابداعات-لماذا تنهال الجوائز وشهادات التقدير على مخترعي البارود والأسلحة وأدوات الفتك بالإنسان؟ ولا تمنح لمصمم حمالة الصدر أو مخترع الجوارب اللحمية أو لباس البحر، ألا يعلمون أن مثل هذه الاختراعات البسيطة تعيد الإنسان إلى إنسانيته، تجرده من الأقنعة المادية، وتذكره بالأنثى البكر قبل أن تغتصبها ذكورية السيد، تجعله يستنهض فروسية آدم ليحظى بثمرة حواء، يعتقدون أن الصناعات التكنولوجية وحدها القادرة على الفتك بالزمن وتغيير وجه العالم، وتناسوا من أعاد لحواء صبوتها لتظهر مفاتنها، فألهبت خيال الأدباء والفنانين وأعادت تأثيث الفكر الإنساني لتكون المرأة محركا يكسر رتابة الجسد المأسور والعقل المبتور. تجاوز أسئلته وارتحل إلى فسحة التمني، تمنى فيما تمنى لو كان يملك قراراً أممياً يصدره كتشريع مطلق، أن يعهد للرجل فقط تصميم كل أزياء المرأة ولاسيما الداخلية منها، وأن تصمم المرأة أزياء الرجل، لتتحقق عدالة التكافؤ في الإثارة والمتعة وإشباع الرغبات المدفونة في أغوارهما منذ بدء الخليقة حتى فناء الكينونة. خطرت له فكرة جهنمية، لم يتأخر في استثمارها، ارتدى ملابسه وخرج، عاد بعد أقل من ساعة، بيده كيس يخفي حملاً خفيفاً، صعد إلى الشقة المواجهة لشقته، تلك المنشور على شرفتها الغسيل، أخرج حمّالة صدر سوداء من الكيس ثم قرع الجرس، خرجت إليه طفلة في منتصف عقدها الأول، سألها عن أمها، جاءت الأم الحيادية الحضور، قال لها: وجدت هذه القطعة مرمية في الطريق، هل تعود لغسيلكم، أمسكتها الأم.. تفحصتها..– في تلك اللحظة عاودته الفكرة الخبيثة بالمقارنة بين صدرها وحجم الحمّالة- هزّت المرأة رأسها علامة النفي وقالت ربما تعود للشقة التي فوقنا، راقت له الفكرة فأكمل المغامرة وصعد إلى الشقة التي تعلوها، ظهر قبالته رجل عجوز، عرض عليه الحمّالة، فنفى الرجل أن تكون لبيته، وأشار بأصبعه إلى أعلى، استمرّ في المغامرة، قرع باب الشقة الأخيرة، فتحت له امرأة خمسينية بيدها منفضة غبار، عرض عليها الحمّالة وقبل أن ينطق عاجلته بتكشيرة مصحوبة بكلمة (انقلع) وصفقت الباب بوجهه. لم تنجح مغامرته الماكرة بالعبور إلى الأنثى من بوابة الجسد الأسير، كان ينوي أن يتجول في الأحياء ليراقب الشرفات المزينة بالثياب المغسولة، ويصعد إلى البيوت حاملاً حمّالة صدر أو سروال أنثوي يقدمه لربة المنزل مدعياً أنه سقط من الشرفة، ليستمتع بالحيرة والحياء حين تعرف أن غطاء عورتها مرّ بين يديه. ها هو ذا يعود لذكوريته بعد أن دافع عن الأنوثة ودورها في تجديد النسغ وتأجيج المشاعر، يعرف أن مثل هذه الحركات لا تكسبه ودّ الأنثى، ولن تجعل منه عشيقاً يرتجى، لكنه يهرب من جفاف أحاسيسه إلى الأمام، متجاوزاً الدروب المألوفة نحو مملكة المرأة، فطريق القلب لا يمر من الجسد. استلقى على سريره وحاول أن يطرد أفكاره المتعبة، فقد ضجر من تكرار مفردات العويل، ومازالت مياسم الغيرة تلذعه كلما عجز عن الظفر بعطرٍ يضوع حوله، ويوقظه من خدرٍ استحكم به مذ أسره لغز المرأة الأولى. صار الكلام لغوا بعد أن سقط في قاع الغواية، وأبى قمره أن يبتدر، ناست قناديل روحه وهو يجري خلف حكاياتها المتناثرة في رياضها الشاسعة، وكلما حاول أن يكمل مشواره العبثي، صدّه العجز لينكفئ في خلوته، وينكس أعلامه معلنا الحداد على أرواح أحلامه العاقرة. أوصاه جدّه أن يعدّ أصابعه كلما صافحهن، ولا يغمض عينيه في صحبتهن، وأن يحتفظ بمسافة أمان تفصله عنهن، فحياتك معهن رهن لحادث مرعب ينتظرك عند منعطف في شعابهن الوعرة، حفظ وصية جده والتزم بها، وحين قرع جرس اللقاء، وصل عاريا إلا من هواجسه السقيمة وتجربته الخاوية، فاستغلته التخيلات والتهويمات وكتب الحب الصفراء والأفلام الإباحية، وأخذته إلى المحيطات القطبية، يصارع الصقيع ويضاجع الوحدة. قفز عن السرير مغتاظاً بعد هزيمته النكراء، حاول أن يطرد غلالة الكأبة عنه، وأن يكفّر عن ذنب ارتكبه جراء حلمه الأرعن، أن يخرج من ظلمته الموحشة، بحث عن حمّالة الصدر التي اشتراها ليهديها لجارته الحيادية الحضور، وجدها معلقة على المشجب مع ملابسه، خرج إلى الشرفة، رماها على الطريق، عاد لينشغل بتبغه وقهوته، لم تمض لحظات إلا وسمع قرعاً على باب شقته… فتح الباب، طالعه وجه رجل يشبهه، بيده حمّالة صدر..
*خاص بالموقع