يكادُ الشِعر أن يكونَ الفنّ الإبداعي الأقرب إلى الذات البشريّة؛ سواء من جهة تناوله للجوانب الأكثر حميميّة في العلاقات الإنسانيّة، وكذلك كونه لغة الشعور والأحاسيس دونًا عن غيره من الفنون الإبداعيّة الأخرى، عدا عن سرده لكل ما تعانيه الشعوب من أهوال الحروب وويلاتها، على مرّ العصور.
يذهب الشاعر الفلسطيني السوري رائد وحش في مختاراته الشِعريّة “الشتاء وقت العلامة وقصائد أخرى”، الصادرة مؤخرًا باللغتين العربية والفرنسيّة عن دارPlaine page (باريس 2022، ترجم القصائد إلى الفرنسية: أنطوان جوكي)، بعد “دم أبيض (2005)”، و”لا أحد يحلم كأحد (2008)”، و”عندما لم تقع الحرب (2012)”، و”مشاة نلتقي.. مشاة نفترق (2016)”، و”كتابُ الذاهبين (2022)”؛ إلى مطاردة شبح الأشباح الذي يقوم بتضبيع الشجاعة في قلب الإنسان فيكُفَّ عن الثوران ضد المستبد كون نور القصيدة لا ينطفئ، فتراه يجاهد روحه لتعيش حريتها حتى لا تفنى: “يريدونكَ أن تبقى حيًّا، أن تصمد تحت التعذيب لسنواتٍ كيْ لا يموتوا يأسًا في انتظارك. ألمْ أقلْ لكَ: الأملُ مدرسة الأنانيين؟”.
رائد وحش يأخذنا إلى الدهشة، في لحظات مكاشفة ومحاسبة لعقل الآخر الذي يحكم ويستبد ويستصغر عقلنا- على إنَّ عقله هو العقل، فيما يهرب مع أوَّل وَقْعِ الحرب: “يروي الكتابُ القديمُ حملة الضرائب شرع فيها جُباةُ الوالي لتجهيز جيشٍ يواجه الغازين خارج أسوار المدينة، لكنَّ الجنود الذين لم يصمدوا أكثر من ساعة في المعركة عادت أجسامهم قذائفَ من منجنيقات الغزاة، وفيما راح الأهل يجمعون أشلاء أولادهم من سطوح البيوت، هربَ الوالي وأعوانه بما استطاعوا من ذهبٍ وخيول”. صورة؛ بل صور مأساوية ليست تمارين ولا رسومًا متحرِّكة، يخرج فيها رائد وحش من الصمت الذي فرضه الطاغية؛ الصمت التعبدي، النُسكي، المعتقدي، فيقلب الطاولة عليه وهو في حالة نفسية يتحكَّم عقله بها. تراه منفعلًا، لكنَّه ليفضح ذاك المستحكم المتحكِّم بحركة دوران الاستبداد، فتذهب إلى الانتحار أو إلى التضحية بروحك من أجل حياته: “انظر جوارك.. ثمَّة مشانقُ فارغة! يقتلونك ويتركون مشانق آخرين مشانق بلا جثث، كي تصطاد أشباحنا، حتى أشباح الميتين منذ قرون لم تعد تنجوا. هل تقول إنهم حين يدفنوننا بعد قليل، سيتركون أشباحنا تتأرجح هنا على هذه الأغصان إلى النهاية؟”. صورٌ سوريالية، مشاهد مرعبة هي الأكثر جرأة وحرارة لما تحمل من تراجيديا لإنسانٍ حيّْ يحلم بالحرية، ولكنه مقيَّدٌ بالجنازير مثل الأموات، ومع أنَّ ذخيرته من الحياة كثيرة؛ بل وأنَّه مهما استهلكها فهي لا تنفذ، وهذه مأساةٌ، فلا أحد يضحك علينا: “ضحكنا، أضفت حكَّة اليد الجالبة للرزق: فقراءٌ يورثون وهمًا لفقراء آخرين، يعيشون حياتهم يحكُّون الراحات دون جدوى”.
الشاعر رائد وحش (من مواليد دمشق سنة 1981)، تراه يحفر في البعد المأساوي للحقيقة، وهو يحاول أن يقرِّب الصيرورة بين الوعي وبين الوعي بالشعر- يتعجَّب، ويسخر، ويهزأ، يلعب بالكلمات. يلعب، استفهامات ودلالات، كلمات شديدة الإيحاء؛ يماحك، يُساجل، يناظر- لا يراهن. فالجلاد لا يُراهَنُ عليه وهو مولِّد الروع، الخوف: “تجرنا الفضيحة من جلد وجوهنا، تسلخُ ملامحنا، ينشدون الضياع في بعضهم بعضًا، تجرُّنا ضائعين ينشدون الضياع في بعضهم بعضًا، لا في الطريق.. لا تنظروا إلينا توجعنا عيونكم، نحسد القتلى على موتهم، ونلوم القَتَلَةَ على تكاسلهم في الإجهاز على آخرنا. لا رجاء، لا رجاء إلاَّ بأن تقول للسوط: نرجوك نحتاج شهقة نعبُّ فيها ما يكفي من الهواء، لنعود ونرجوك”.
شاعرٌ يحفرُ في اليومي، يتحرَّى حراك الجلاد، يدخل، يخرج في لجَّة صمته وهو يجلدنا فاضحًا طهرانيته وأمله وعمله. فالمعرفة حقيقة تتبدَّل وتتغيَّر، إنَّما تنحاز إلى الحقيقة ليس لترمِّم صدعًا. بل لتصدَع وتُصدِّع، فالعقل الإنساني- العقل الكوني، عقلٌ ناقد، والنقد فلسفة، والشاعر متكلِّمٌ يسرد فكرته التي هي قوله النقدي أو التأملي مهما تعددت المعاني ومهما كان العشاء سريًا: لمن تتركين المدينة؟ للعساكر عند المفارق يعتقلون الخريف؟ للمروحيات تطِّيرُ أشلاء الضواحي إلى ضواحي للموت؟ أمْ لليلٍ يراها فراغًا فيزداد ليلًا كي لا نراها؟ أتنامين وكلابٌ مسعورةٌ تنهش منامات الصغار؟ أتنامين والصواريخ أيدي غيلان تخنقُ صوت المؤذِّن لئلا يُنادى الصباح؟ استيقظي، استيقظي، ربَّما يتوقَّفُ كابوس المدينة”.
مَنْ يقهر هذه الروح- الأرواح بهذه المروحيات وهي تساقط، يسقط الموت منها ونبدو صامدين. رائد وحش يسخر؛ أهو العنف الفلسفي للمستبد؟ إنَّه يجاهد ويكابد شعبه، فهو في ذاته ليس سوى ذاته، ذاته التي يجب أن تبقى فيما الناس تفنى، فيرميهم بالبراميل، فتوحات، فتوحات، وما عليه إلاَّ أن يستعيد فتوحاته. لا خورٌ، ولا خوار. مجازاتٌ وأطيافٌ وصورٌ يرسلها الشاعر في مجموعته، تتكاثر معانيها، المعاني الأكثر فتكًا وسخريةً، والتي تختزنها، تخزِّنها الحريَّة في أعماق الروح الإنسانيةً لاستعادة الأرض والسماء.
*ضفة ثالثة