علي محمد شريف: حكاية الرجل الذي أكلته السمكة

0

لم يدّع مرّة ولعاً بالقصص القصيرة، أدرك مبكّراً أنّ حياته العريضة المجلّلة بالسواد الكثيف، المكشوفة مثل بطنه المترهـّلة، هي وحدها القصيرة وربّما القصيرة جدّاً، لهذا السبب فضّل لها أن تمرّ بلا ضجيج ودون أن تحدث التلوّث البيئي الذي يرافق عادةً مرور عربات نقل الخضار الطازجة، ومواكب أصحاب الياقات المنشّاة و”اليافطات ” الفاقعة. 

مُذْ كان طفلاً لم تراوده الرغبة في أن يتسلـّق سور المدرسة، أو” يتعمشق “خلف “حنطور” أبي صبحي العتـّال، كان يفضـّل المشي على ركوب ” الترام “، لا لفلسفةٍ مبكرة نمت معه، وليس لأنّ الجابي يعتمر قلنسوة شرطيّة، إنّما فقط لأنّه يكره السرعة والتسارع، ويحبّ التمهّل والتأنّي في كلّ شأن ٍ من شؤونه، وهي قليلة ومحدودة على أيّة حال. 

كان يرى نفسه أشبه بصيّاد السلمون الإنكليزي، ذاك الذي يقضي الليل بطولـه مسمّراً على ضفاف البحيرة، ملتفـّـاً بمعطف سميكٍ طاردٍ للبرد، يراوده حلم ٌ وحيدٌ، في أن يصطاد سمكة كبيرة تتجاوز بحجمها الرقم القياسيّ المسجّل باسم غيره، أن يزينَها، ويصوّرها، ويتصوّر معها، سوف يعيدها بأنامل حانيةٍ مرتعشة إلى الماء الذي أخرجها منه، وينصرف هو إلى شأنه الترابيّ بعد أن أدّى رسالته كاملة ً. 

ملامحه الموشكة على السقوط كانت مثل قاع بئرٍ جفّ ماؤها، لذلك رأى نفسه وقد اختارت طابقاً تحتيّاً سكناً لمستقبله المكفهرّ.

وحين رأى زوجته توشك على الطيران وقد حزمت أمرها وحقيبتها الوحيدة، لم يجد مفرّاً من مرافقتها إلى الرصيف الجانبيّ خشية أن تتهمه بالرغبة في الخلاص من هيئتها الضاربة للسُّمرة، حينها قالت له جملتها الأخيرة:

– عد إلى قبرك، قد يحلّ أحدّ مكانك فيه، أسرع.

لم يستجب لطلبها بالطبع، فقد كان بطيئا ً في عودته، وبدا أقرب للحزن.

قبل أن تركب الناجية ببويضاتها الأخيرة باص القلعة متجهةً إلى أختها سمر المحظوظة بزواجها من “أفندي” موظـّف قدّ الدنيا، كان ثمّة طربوشٌ أحمر بشراشيب مقصّبة يتراقص حول قامتها بخُيلاء، في حين كان صدرها المحتفظ بصلابته وعنفوانه يرسل رياحاً تشرينيّة تعصف بسواد عنترة الأمميّ، وتستلّ من قلبه سكـّر البطولات الآفلة.

بعد أن شاهد هذه اللوحة الضاجـّة بالاستفزاز شعر بالطمأنينة عليها للحظات، أمـّا ما ركبه من حنقٍ بعد ذلك، إنما كان بسبب تلك الممصوصة جارتهم، التي تحتلّ الطابق الإضافيّ في المبنى المهدّد بالسقوط المحتّم، فقد تأكـّد لـه أنّ التمرّد الأخير لزوجته يعود إلى تخويفٍ مارسته عليها أم عصّ تلك.

كانت أم بشير تؤكـّد أنّ خوف الزوجة مبرّرٌ تماماً، فمن كان يضمن لها عدم انزلاق بويضتها الأخيرة من رحمها الموشك على الضمور في بالوعة حمّـامهم دون ولدٍ يستر كبرتها حتى ولو شابه أباه.

وتضيف لزوجها الفوّال: والله لو كنتَ مثله يا أبا بشير لبقيتُ أمّ بشير، حتى دون أن تكون أباً لـه، ولكنتُ أعدتك إلى ” قمّيل” الحمّام لتشارك أمّك في بلائها “الشحّاريّ” مع أبيك.

يتذكره جيرانه في مشاهدتهم الأخيرة لــه فقد عبَر الشارع الوحيد الذي يفصل بيته عن عمله، وكان يضحك بصوتٍ أقرب إلى القهقهة قبل أن يتوقف وتلتقطه السـمكة.

*جريدة إشراق