علي عطا: الجماعة تتولى السرد الوجودي في رواية “كل يوم تقريباً”

0

يعي بطل رواية “كل يوم تقريباً” (مركز المحروسة للنشر – القاهرة) للكاتب محمد عبد النبي، أزمته الوجودية، ومن ثم يتعذب بها وحده، وكأنه “سيزيف” في الميثولوجيا الإغريقية، لكونه لا يجد من يشاركه الوعي بها؛ لا بين أصدقائه فعلاقته بغالبيتهم سطحية، ولا بين أهله، بمن في ذلك أمه المقعدة، التي يجد متعة من نوع خاص في رعايتها. رغم أن تلك الرعاية تحتم عليه ملازمة المنزل الذي يجمعه بأمه، بعد وفاة الأب وزواج الأشقاء، لأوقات طويلة، وتحرمه، في كثير من الأحيان، من اقتناص متعه الحسيَّة التي لا مجال لها تقريباً، في بلدته الريفية، رغم قربها من القاهرة التي يعشق ليلَها، على نحو خاص. بل يصل به الحال إلى استلطاف ذلك العذاب، أو على الأقل يتقبله باعتباره كفَّارة عما يعتبره مجتمعُه آثاماً، استناداً إلى أعراف تجد ما يرسخها في نصوص دينية، يحفظها تماماً، بحكم دراسته الأزهرية، ولكنه يتخوف من مغبة مناقشتها علناً. لا يؤجل السرد كشف الأسباب الكامنة وراء تلك الأزمة، بل يصرح بها منذ البداية، ولكنه يلح على استدعائها حتى النهاية، ربما تأكيداً لفداحتها للحدإلى حد ا يدفع “فؤاد” المروي عنه، ومالك زمام الروي في بعض الأحيان، عبر تقنية اليوميات، إلى التفكير في الانتحار، ليكون خلاصاً نهائياً. في تلك اليوميات، يكشف “فؤاد” عن اتخاذه الشاعر اليوناني السكندري قسطنطين كفافيس (1863 – 1933) مثلاً أعلى، فلطالما تكيَّف مع الوحدة وربما العزلة، وربطته أيضاً بأمه علاقة خاصة، وكانت ميوله المثلية – بحسب اعتقاد بطل روايتنا – وقوداً لإبداعه. وتُعلق “الجوقة” التي تتولى معظم السرد على ذلك بالقول إن ثمة رابطة قوية تجمع “فؤاد” بـ”شاعر عظيم يحبه ويحب حبه للرجال”، ومن ثم فإنه “لا يسعى إلى ندم قاطع، إذ يكفيه ندمه المتقطع” صـ286.

 سرد خارجي

السرد في رواية “كل يوم تقريباً” يتكئ على ضمير المتكلم، وهو هنا جماعة تعكس تشظي ذات المروي عنه، “فؤاد”، الذي بلغ الأربعين من عمره، ويعيش مع أمه في منزل في منطقة متاخمة للقاهرة، شمالاً، يختلط فيها الريفي بالمديني. صوت السرد الخارجي، يشبه الكورس في المسرح التراجيدي الإغريقي، ويتكئ على دفتر يوميات “فؤاد” الذي “ظلَّ 40 عاماً يربي عزلته ويحاسبها على كل شيء آخر، لا يكاد يكسرها شيء إلا نداءات أمه عليه أو نباح جرو نزل عليه من السماء”.

thumbnail_غلاف رواية كل يوم تقريبا - مركز المحروسة للنشر.jpg

رواية “كل يوم تقريباً” (دار المحروسة).

يبدأ السرد وينتهي بحدث يبدو للوهلة الأولى مغرقاً في الغرائبية، وخلاصته أنه عندما استيقظ “فؤاد” من النوم، ليلة الثلاثاء 25 ديسمبر / كانون الأول 2017 (بحسب ما سجله في يومياته) وجد جرواً نائماً بجانبه. تحايل ليخفي أمر ذلك الجرو الذي أطلق عليه اسم “ماندو”، عن أمه، لكنه سرعان ما فشل في ذلك، إذ لم يتمكن من الاحتفاظ به في ضيافته سوى لمدة عشرين يوماً فقط. ومن “اليوميات” نفسها التي تشكل معظم متن الرواية، سنعرف أن “فؤاد” هو الذي أتى بذلك الجرو إلى المنزل ليلاً بعدما أشفق عليه – وهو في حالة سُكر – من برد الشارع، ثم نسي ذلك عندما أفاق في الصباح.

كان يحاول أن يكتب بانتظام كل يوم، أو كل يوم تقريباً، ولو سطوراً قليلة في دفتر يومياته. بدأ عادة كتابة يومياته في سن 17 عاماً، ولكن لم يكن التزامه بها صارماً، بحسب تعبيره الذي اتكأ عليه كتاب افتراضيون لوضع عنوان هذه الرواية التي كتبوها لتوثيق الكثير من الأحداث التي تضمنتها يوميات فؤاد، بعدما قرر الأخير الخلاص منها بحرق المكتوب منها على الورق ومحو المدوَّن منها على الكومبيوتر. وقرر ب”عزيمة ثابتة ونية راسخة” الإقلاع عن التدخين والكحوليات، ليكتشف بعد مرور بضعة أيام أنها “نوبة عابرة لا تختلف عن أخواتها السابقات، على سبيل هدهدة الأمل في التغيير المنشود” ص17.

ركام هلامي

أما الرواية ذاتها فقامت على حيلة سردية مفادها أن “فؤاد”، الذي سبق أن نشر روايات ومجموعات قصصية نال عن بعضها جوائز مالية، ساعدته في مواجهة أعباء الحياة، اتفق مع “أشباحه” على أن يستخرجوا من يومياته التي وصفها بـ “الركام الهلامي”، “شكلاً ما”. وعلى الرغم من أن ذلك “الركام” كان ينطوي على الذهاب بعيداً في تعرية الذات، إلا أن أشباح “فؤاد” لاحظوا أنه قبل اتفاقه معهم، “بادر بتمزيق بعض المواد ومحو ذكريات مدوَّنة أو غير مدوَّنة؛ بقصد أو بنسيان أصبح طبيعة فيه”.   

 

الجماعة التي تتولى السرد تعتبر نفسها “شلة فؤاد”، أو أصدقاءه المقربين، مع أنهم في الواقع الأمر ليسوا سوى تعبير عن تشظيه: “ثم ختم حكايته التي نعرفها من قبل، بأن رفع كأساً تفيض برغوة البيرة قائلاً: هكذا سويتُ المسألة وانتهى الأمر، وعُدتُ إليكم وحدي من جديد، لا كلب ولا قطة ولا وجع دماغ، لكن أموت وأعرف من أين أتى هذا الجرو”. ويتضح في الاقتباس السابق ولع السرد، خصوصاً حينما يتولاه “فؤاد” استناداً إلى يومياته / اعترافاته، بالتعبيرات “الشفهية”، مثل “وجع دماغ”، و”أموت وأعرف”.   

لعبة الدفاتر

بدأ الأمر قبل أيام قليلة من بلوغه الأربعين. راح يفكر في التخلص من يومياته، ثم أرجأ التنفيذ، وأخذ يتصفحها حتى ذاب فيها، شيئاً فشيئاً. بعضها مكتوب على “اللاب توب”، وبعضها بخط اليد. وبمرور الوقت وجد نفسه يملأ المزيد من الدفاتر الحقيقية والافتراضية، هو المؤمن المتشدد باللحظة الراهنة والكافر بالحنين إلى أي أمس، والمغرم بتأمل أحواله ومنها مثلاً تعلقه بالتدخين: “فكأن التدخين ليس مجرد عادة سيئة تدمر الصحة وتؤدي إلى الوفاة، بل هو أقرب إلى رمز، علامة لشيء أكبر من مجرد سحب الدخان إلى الرئتين شوقاً لضبط نسبة النيكوتين في الجسم. تلعب السيجارة دور ملاك الفناء” ص 19. ومع تمادي محمد عبد النبي في اللعب، نجد الساردين يخبرون القارئ الافتراضي بـ”معلومة بديهية وإن غابت أحياناً عن كثيرين، وهي أن “فؤاد” ليس شخصاً حقيقياً، هكذا بكل بساطة”. هنا ما يمكن اعتباره أمراً مخالفاً لكسر الإيهام، غرضه تأكيد أننا بصدد عمل روائي، شخصياته متخيَّلة! مع أن الكثير من تفاصيل شخصية بطله، تنطبق على كاتبه، على الأقل بالنسبة إلى مَن يعرفونه معرفة شخصية من الوسط الأدبي والدوائر المتقاطعة معه، أو حتى من بين أصدقاء عاديين وأقارب وزملاء عمل؛ هنا أو هناك.

وعلى طريقة ورش الكتابة التي يمارسها محمد عبد النبي، يجد القارئ ارشادات مباشرة، من خلال الجماعة نفسها التي شكَّلت ما يشبه الورشة لكتابة هذه الرواية: “مشكلة الهوية لا تحل بمجرد الاتفاق على اسم شخصية ما، بل لعلها تبدأ به؛ إذ لا يجب استكمال بقية البيانات الواردة في الاستمارة الرسمية الشهيرة في القسم الخاص برسم وتكوين الشخصيات والذي يشغل طابقاً كاملاً من مجمع خدمات البناء الروائي”… “حتى الأشباح المجتمعة هنا، والكاتبة لهذه السطور، لديها بيوت والتزامات ومواعيد، تماماً مثل الأشباح التي ستأتي منفردة، لتقرأ هذه السطور بعد حين”.

مذلة الكتابة

الأب الذي رحل فجأة، كان عامل نسيج، شارك في حرب 1973. الجد كان راعي أغنام “لم يترك لأولاده غير الشر”. الأب مولود في 8 مارس / آذار 1945 في ميت غمر (شمال مصر)، وتوفيَّ في 9 يونيو/ حزيران 2015 في شبين القناطر (شمال القاهرة). شأنه شأن ملايين الملايين من صغر الناس الذين يدخلون الدنيا في هدوء ثم يغادرونها من دون أن يشعر بهم أحد تقريباً إلا ذووهم، إلا الأقربون، إلا من أورثهم المحبة والضحكة والدمعة ونِصفَ جيناتهم الطيبة وصوراً وعبارات. يورد الساردون فقرات من يوميات فؤاد كما كتبها هو ثم قد يعلقون على ما تضمنه بعضها. أب بالكاد يفك الخط (تعبير عامي) ويميز اسمه وأسماء أولاده، فلن يعرف أبداً مذلة الكتابة (!) ولا استحالة اختصار حياة حافلة في بضعة أسطر. يحاول تأويل الحلم، في سياق انشغاله بالعقيدة البوذية لبعض الوقت. كان قد رأى نفسه طفلاً محمولاً على ذراعين مطويتين لرجل أسمر. فكأن هذا الرجل كان البوذا بذات نفسه (عامية) تمثاله أو رمزه أو صورته، استدعاه “فؤاد” ليحمله للحظة ويهدهده ويهون عليه، أو لعل ذلك الأب السماوي، كما تصوره أديان أخرى، وأحلام جميع البشر منذ بداية الزمان، نحلم به يحملنا ويهدهدنا ويهون علينا الطريق والحمول ووقع الزمن… “أو لعله أبي الحقيقي والذكرى آتية من بعيد جداً”. وكما يحضر الديني، يحضر السياسي وإن بخفوت، فالأب هو من “أولئك الذين هتفوا لعبد الناصر دامعين من الفرح ثم القهر”.

مخلوق روتيني

المنخرطون في ورشة الكتابة تلك؛ “قرروا ركوب آلة زمن متاحة بأجرة معقولة في قسم التسهيلات من مجمع خدمات البناء الروائي”. هكذا يعود السرد إلى أربعينيات القرن العشرين ويأخذ سمتاً قريباً من حكايات “ألف ليلة وليلة”، أو السير الشعبية و”الحواديت”، “لإرضاء قراء المولات ومتاجر الكتب الأنيقة المكيَّفة”؛ بحسب تعليق جوقة السرد: “رجل ماتت زوجته وهو في منتصف العمر وتركت له طفلين صغيرين، ولداً لا يزال رضيعاً اسمه سلامة، وبنتاً بين الرابعة والخامسة اسمها سليمة… ارتبط بزوجة ثانية أنجبت له ولداً وبنتاً”.

وعلى طول المتن تتنوع ضمائر السرد، من المتكلم إلى الغائب، وصولاً إلى المخاطَب، ويبرز الكثير من الأسئلة الفلسفية، التي يطرحها البطل السيزيفي من قبيل: هل النسيان داء أم دواء؟ ويبرز سؤال الهوية وتتجلى أحياناً السخرية من موروث البكاء على الأطلال. وتتجلى أيضاً قناعاته، ومنها ما يعبر عنها في ديالوغ مع أشباحه ومفادها أن الحاضر “هو الزمن الوحيد الجدير بكل انتباه”، مع أن الكتابة التي يبدو أن لا مفر منها “هي شكل من أشكال إعادة إنتاج الماضي”. أما الدين بشكله التقليدي، فإن “فؤاد” بات على اقتناع بأن عليه أن يضعه وراء ظهره، لكنه استبقى في غفلة من أصدقائه اليساريين ومن نفسه، حبلاً سرياً حياً يربطه بالسماء، بحسب تعليق الساردين على ما وقع تحت أيديهم من يوميات “صاحبنا”، الذي يبدو أنه سيظل “يلف ويدور في سواقي أكل العيش ويدفع حجارة الأيام واحداً بعد آخر، ويصعد إلى رأس جبل الاسترزاق كل يوم، ثم النزول منه إلى سفح البيت والنوم والأحلام كل يوم، أو كل يوم تقريباً” ص 146… “وعندئذ تنكمش الكتابة أسيرة في أرض غريبة وتهمس: لا تخف يا فؤاد، لن تأكلك الوحدة، فهي الواحة المعمورة، ولا تخش الصمت فهو بئر الأسرار الحلوة. أدرك أنه مخلوق روتيني بمعنى أنه يحب أن يفعل الشيء نفسه في الموعد نفسه كل يوم، أو كل يوم تقريباً” ص 243.

*اندبندنت