علي سفر: هل يستطيع المثقف السوري التبرع لضحايا الكارثة؟

0

سخر بعض المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي، من إعلان بعض الكتّاب والشعراء السوريين، تبرعهم بالنقود التي يجنونها كأثمان لمؤلفاتهم المباعة عبر مواقع التسويق الإلكتروني، لضحايا الزلزال من أبناء جلدتهم!

ورأى بعض المتهكمين، ممن قللوا من أهمية هؤلاء المثقفين، أن هذه الإعلانات ليست سوى محاولة بائسة لتسويق النتاج الأدبي، واستجلاب بعض الحضور أمام الجمهور!

وفي ازدحام أخبار الموت، الذي ذهب بعائلات كاملة كضحايا، لم يتحول الحديث عن هذا النمط من التبرعات إلى ظاهرة، لكن ما جرى، يقود بشكل أو بآخر، إلى السؤال عن الدور الذي يمكن أن يؤديه المبدع أو المثقف في لحظة كارثية كهذه؟!

هنا، لن يكون بالإمكان الاكتفاء بالتعاطف فقط، إذ ثمة حاجات ماسة لدى البشر على الأرض، الذين يعانون أفعال الطبيعة، وأيضاً من تقصير المؤسسات المعنية، بتأمين بيوت مقاومة للاهتزازات المدمرة. لن يكون مفيداً، والناس تحت الأنقاض، الانشغال في توجيه الاتهامات، أو الإشارة إلى الأخطاء، بل يجب على الأكف “الناعمة” أن تعمل برفقة المنقذين لانتشال الناجين، وإذا عجز المرء عن العمل بيديه، في موقع الحدث، أو في الأمكنة الأخرى، حيث يتم جمع المواد الإغاثية، فإن أقل ما يمكنه فعله هو التبرع للمؤسسات العاملة على الأرض.

المثقف الذي لا يريد الاكتفاء بالتحسر على القتلى، يبحث عن فعل ما، يُمكّنه من المساهمة في عمليات الإنقاذ، وقد حول البعض صفحاتهم إلى ما يشبه خلية عمل، تنشر مواقع الضحايا الذين لم ينتشلهم من بؤس المصير أحد، وتدعو القراء المنتشرين في بعض الأمكنة إلى استقبال المشردين، فضلاً عن سعي البعض الآخر إلى جمع مواد الإغاثة، والمشاركة في تحديد طبيعتها، والتنبيه إلى عدم نسيان الحاجات الجندرية في تكوينها.

وقد يتبرع بعض من عجزوا عن القيام بمثل هذه الأشياء في النهاية، بمبالغ مالية لم يحصلوا عليها من كتابتهم، غير أنهم لا بد سيفكرون في أن منتجهم الإبداعي قد يساهم في تأمين بعض المال، وهم يختارون لأنفسهم، حتى وإن اختلف القراء والنقاد على قيمة منتجهم، دوراً في الحدث، يتوازى مع قيام نجوم في فنون أخرى بتكريس أعمالهم للمساعدة!

يقرر أحد الأصدقاء أن يبيع مخطوطاً شعرياً لمشترٍ ما، مقابل 500 دولار، سيخصصها لصالح ضحايا الزلزال، وتفعل مثله كاتبة تقيم في بلد أوروبي، فتنشر رابطاً لشراء كتابها في “أمازون”، من أجل التبرع بالمال للغاية نفسها. 

ويتكرر الأمر في داخل البلاد، وخارجها، بين تركيا وأوروبا، ونقرأ في غير مكان عن أدوار قام بها أفراد في الوسطين الفني والثقافي، ولا يستطيع أحد بالطبع تقدير حجم وأهمية ما يحاول هؤلاء فعله، أمام الاحتياجات التي تسببت بها الكارثة المهولة.

بالتأكيد، يمكن الالتفات إلى هذه المبادرات من زاوية أولى، تتلخص في كونها تعبر عن التصاق أصحابها بالواقع، واقترابهم أكثر من القاع المجتمعي الذي يتأثر قبل أي شريحة أو طبقة بمثل هذه الوقائع. 

وأيضاً من زاوية ثانية، لا يمكن تلخيصها في الحديث عن دور المثقفين المأمول، بل بالتركيز أيضاً على الموقع الفعلي لهؤلاء، بعدما ساهمت الأنظمة والحكومات، ومن بعدها الوسائل الإعلامية العامة، في عزل هذه الفئة عن الجمهور، وتأطيرها عبر التنميط المسيء لها، والذي غالباً ما يركز على نزعات أفراد مثقفين، ليخرج منها بأحكام عامة ضد الشريحة بأكملها.

بدأ التنميط للمثقفين في سوريا البعثية منذ ستينيات القرن الماضي، حينما اندلع الصراع بين شريحة الأساتذة، أي مدنيي “حزب البعث”، وبين عسكره، الذين حملوا على المؤسسين صلاح الدين البيطار وميشيل عفلق وأكرم الحوراني، وسخروا منهم، بكل الطرق المتاحة، حتى صارت مناداة الشخص في الجيش بلقب الأستاذ تتضمن الإساءة المتعمدة له، فالأستاذ بلغة ضباط الحزب القائد هو الحمار!

وفي سياق التراكم المستمر منذ 60 سنة لأفعال القمع وطرد الكوادر، واستباحة الحرمات العلمية والثقافية على العموم، لم يعد هناك احترام لأي رتبة مدنية في أي مجال، بل إن العقد الأخير شهد تصنيعاً للمثقف المتهافت، الذي ارتبط بالنظام مصلحياً، وصار مصيره متعلقاً بما يمكن أن تنتهي إليه الزمر المتحلقة حول الأسد، ففقد في النهاية الاحترام لشخصه، ولإبداعه، حتى وإن كان من المتفردين؟!

في مثل هذه الظروف، سيحاول البعض تحصيل بعض الاحترام، عبر القيام بمبادرات إنسانية هنا وهناك! لن يستطيع المرء الحديث عنها بشكل سلبي، وفي الوقت نفسه، من الضروري ألا تصبح وثائق عبور، من الاتساخ الأخلاقي، الذي يسببه الوقوف مع الطغاة ودعمهم، إلى تبييض السيرة الذاتية.

وبالعودة إلى السؤال عن قدرة المثقفين على المساهمة في الجهد الإنساني، يمكن احترام كل المحاولات لتوسيع المساحة، لكن كيف يمكن لمثل هذا أن يكون فاعلاً، طالما أن نجوم الكتابة، ممن تبيع أعمالهم أكثر من غيرهم، لم يقوموا بما قام به غيرهم؟! وكيف يمكن الحصول على إجابة مقنعة، طالما أن دور النشر ونظائرها في الأوساط الثقافية والفنية، لم تبادر إلى التبرع، ولم تدعُ إلى حضور أعمال يعود ريعها للمتضررين؟

وقبل هذا وذاك، هل نحن على قناعة بأن هذه الفئة تستطيع أن تفعل شيئاً، يضعها في الواجهة، وهل ثمة نتاج مادي لفعالياتها يمكن أن يؤدي غرضاً ما؟! ومن يستطيع أن يجزم بأن سوق الثقافة في عموم المنطقة، يشكل كتلة مالية وازنة، في ظل الفساد وغياب البيانات، الذين يغطيان على كل شيء؟!

*المدن