علي سفر: “هبّة يك”… سوريا الضائعة بين الشطرنج وطاولة الزهر

0

كعادته في اختيار مواضيع مختلفة، كان فيلم نبيل الملحم عن مقهى الروضة الدمشقي، والذي حمل اسم “هبّة يك”، غريباً، حتى عن تجارب أخرى عمل عليها، إن كان في الصحافة المكتوبة، أو المرئية، والتي يذكر الجمهور منها تجربتين ثريتين في تسعينيات القرن الماضي، هما برنامج “ظلال شخصية”، الذي التقى فيه كمُعدّ ومقدّم بجحفل من الشخصيات السورية، والبرنامج السياسي الأسبوعي “الملف” عبر الفضائية السورية.

في عوالم الملحم، الصحافية والروائية، ثمة حضور للمقهى، لكن في هذا الفيلم، يمكن اعتبار الموضوع ذريعة لدفع رواد المكان، الحذرين عموماً، للحديث عن سوريا التاريخ والسياسة والنظام، لا سيما في المرحلة التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق. فقد صُور في نهاية العام 2004، ولا يلاحظ على الشخصيات التي حضرت في سياقه أي إحساس بالترقب، كما أن ما يقوله غالبية هؤلاء كان يتجه إلى مقاربة السياق العميق لسبات المجتمع السوري تحت وطأة الحكم الأسدي، من دون الحديث عن وقائع يومية حاضرة في السياق.

كان السؤال الذي يمكن اعتباره الدافع لمحاولة إنشاء السياق، أو العتلة الرافعة لأحاديث كل من حضر في الفيلم، هو البحث عن موقع المقهى في حياة السوريين، وعن التبدلات التي أحاقت به، طيلة عقود من سيطرة “البعث” وقبله دولة الوحدة بين سوريا ومصر، والتي فصلت من خلال القمع، بين دوره كمكان للقاء الناس، وبين فاعليته كمنصة للسياسة في المجتمع.

ويتحدث حولها الراحل ميشيل كيلو في سياق الفيلم؛ حيث لم يعد مثقفو المشاريع الثقافية والسياسية الكبرى الذين حضروا في الخمسينيات والستينيات هم أنفسهم في زمن التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، فقد تغيرت الطبيعة، وبات المثقف التكنوقراط الذي يشارك وعيه السياسي تحصينٌ علمي ومهني هو الذي يحتل الطاولات.

بينما يقترح أحد المشاركين، وهو ناشر لإحدى صحف المرحلة، أن ثمن “المشاريب” الباهظ، هو الذي يجبر المثقفين على القدوم إلى المقهى الشعبي هنا!

الروائي خيري الذهبي ذهب بعيداً في قراءة المسألة، ففضلاً عن التمحيص في الأسباب المبهمة، حول غياب المقاهي، وتلاشي حضورها في الشام، بعد أيام عزها، والتوقف بشكل ملفت حول غياب لعبة الشطرنج، وحلول لعبة الطاولة بشكل أوسع، تذكر قولاً لمحمد حسنين هيكل، قال فيه: إن الغرب يلاعبنا بالشطرنج، بينما نلاعب إسرائيل والغرب من ورائها لعبة الطاولة المبنية على الحظ، والحظ فقط!

طاولة الزهر، لا تحضر فقط عبر استدعاء الذهبي، بل إنها جزء من تكوين الفيلم، إن لم نقل إنها واحدة من بؤره المحركة، فالاسم يدل على وجهين متشابهين بالرقم 1 في حجرَي الزَّهر، وعبر حركاتهما وارتدادهما على خشب الطاولة يتم قطع المشاهد الفاصلة بين الشخصيات ومحاورها، فهنا في هذا المقهى الذي يصفه نبيل الملحم، بأنه آخر نادٍ لمنوعات الحياة الثقافية السورية، يتوزع الأشخاص، وكأنهم وجوه أخرى للنرد، فهم كتّاب، مثقفون، معارضون، موالون، مخبرون، متشردون، الخ.

لكل منهم كرسيه، ولكل منهم وعدٌ يرقص حوله. وعلى هذا، سيتساوى الأيديولوجيون جميعاً، في ملامح الزمن الفائت، وربما سنجدهم ضمن منطق اللعبة، التي يتبادل لاعباها المكاسب والخسارات، يراقبون المشهد، متربصين في تجاويف خفية، مع ترصد لتفاصيل بؤر في تاريخ البلد، لم يستطع أحد أن يفك أسرارها.

وهنا تأتي شهادة سامي جمعة، الضابط الذي يشار إليه بوصفه فاعلاً وشريكاً وربما متهماً بتغييب وتذويب القائد الشيوعي فرج الله الحلو، فتحل في ثلاثة مواضع في الشريط، وكأننا بصانعه يريد أن يجعل من خلطته كناية عن البلد بأكمله من الماضي وحتى الحاضر، وربما المستقبل إذا ما اعتبرنا أن الإشارات إلى المنفى، التي يرويها الشاعر فرج بيرقدار، وكذلك توصيف الآفاق المسدودة في حديث ياسين الحاج صالح، تؤشر إلى ما انتهى إليه كثيرون ممن عبروا سياق الفيلم.

منطق الفيلم يقترب من الريبورتاج السريع، رغم أن مدته 24 دقيقة، وهذا ما أكسبه ديناميكية، تخفف المخرج في ظلالها من ثقل الخطاب المطروح على ألسنة الشخصيات هنا وهناك.

وربما يمكن الفهم، عبر خصوصية التكوين هذا، بأن هذا المُنتج ربما قد صُنع ليوسع لنفسه مساحة عرض على إحدى الفضائيات العربية آنذاك، من دون أن يتحول إلى وثيقة مؤذية لأي من المشاركين فيه.

غير أن المفارقة التي يتوقف عندها المرء، وهو يشاهده راهناً، أنه لم يعرض في أي مكان، سوى مُقطعاً على صفحة ثورية في العام 2012، وها هو يُبث حالياً في “يوتيوب”، وكأنه وثيقة مستخرجة من عمق الحياة اليومية السورية في بدايات الألفية الجديدة، قبل أن تنفتح نوافذ الموت والرعب على المنطقة، بعد وقت قصير من نهاية تصوير الفيلم، حينما اغتيل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وتداعت الأحوال بعدها، إثر خروج الجيش السوري من لبنان، فرسمت ملامح سياسة النظام داخلياً، حيث اعتقل الراحل ميشيل كيلو بعد وقت قصير، وعادت سوريا إلى زمن الأسد الأب، قمعاً وصمتاً.

16 سنة، فصلت بين تاريخ صناعة هذا الفيلم وبين وقتنا الحالي، لم يتم الحديث عنه سابقاً في مدونات الوثائقيات السورية قبل الثورة، وحاله يشبه حال عدد قليل من الأفلام التي جرى تصويرها في تلك المرحلة، واستضافت وجوهاً سورية معارضة، تكلمت قليلاً عن هواجسها وأفكارها. لكن أهم ما يقدمه الفيلم هو المفارقة التي ينطوي عليها مشاهدتنا له، بعد كل ما جرى في سوريا، فالشخوص الذين يأتي كلامهم هادئاً ومصاغاً بدقة، لم تتركهم الثورة على حالهم، فبدلت من نبرتهم، ولم تعد ملامح وجوههم معقدة، بل أمست طبيعية، مثل أي من البشر. كما أن خطابهم الهادئ الرصين، تجاه نظام كانت لديه فرص كثيرة ليقوم بإصلاح واقعه (وفق إعلاناته هو ذاته وخططه عن الإصلاح الإداري والمالي، الخ)، صار أكثر وضوحاً.

الأمر يشبه أن يخرج المرء من خزانته، ألبوم صُور، ليرى كم غيّرته السنون، لكنه يكتشف أن التغيير لم ينل منه وحده، بل إن العالم تبدل أيضاً، وبما يمنعه من الخوض في نزوات الحنين إلى ذلك الزمن!

لقد ترك الشاعر كرسيه فارغاً في الفيلم، وبقيت قصيدته معلقة في فضاء المقهى. وفي الواقع، وبعد كل هذا الزمن، لا شيء تغير سوى أن كراسي الجميع، بقيت كما هي، وستبقى، إلى أن تنتهي لعبة الشطرنج السورية!

*المدن