يتداول مثقفون سوريون وعرب على شبكة الإنترنيت وفي مواقع الكتب الإلكترونية تحديداً كتاباً مثيراً يحمل عنوان “نظام التفاهة” ألفه الباحث الكندي آلان دونو وترجمته إلى العربية د. مشاعل عبد العزيز الهاجري. يقدم فرضية مهمة حيال تغير المعايير القيمية التي تتحكم بالحياة المعاصرة وميلها صوب الانحدار.
وإذ يجتهد مؤلف الكتاب في توضيح شدة هذا التهاوي العالمي إلى قيعان الأسوأ، وحلول العملة الرديئة بدلاً من العملة الجيدة، فإن ما يوضحه في هذا السبيل يمضي نحو دراسة التفاصيل في كل باب من الأبواب التي يرى أنها تمثل عناوين للمرحلة التي نعيشها، ومن خلال الخروج بآليات التهاوي يستخلص المؤلف عناصر النظام المهيمن الذي نعيشه والذي يعنونه بالتفاهة!
الإثارة في الكتاب رغم قسوة لغته العلمية، ورغم استناده إلى أمثلة غربية بالكامل، تأتي من أن القارئ أياً كانت جنسيته أو قوميته سرعان ما يبدأ وهو يستغرق في الكتاب بمحاكاة خلاصاته العامة، فيقوم بتقييم البيئة التي يعيشها ليرى منظومة التفاهة الخاصة بها والتي تتحكم بكل من يعيش فيها، وكيف تتحول التفاهة من نتيجة إلى سبب يعيد ترتيب آليات العمل في كل الحقول العملية والمجالات المعرفية والمساحات الإبداعية والفنية، فضلاً عن خلق مجال سياسي تافه، باتت تحتل أركانه قوى سياسية وفئات مجتمعية لا تعمل لأجل قيمٍ ومصالح مجتمعية عامة قدر عملها على مصالحها الخاصة وجعل هذه المصالح تبدو وكأنها هي قيم المجتمع المعاصر!
رغم ازدحام يومياتنا السورية بالأحداث والوقائع، لا يمكن أن نمر مرور الكرام على هذا الكتاب، فحاجتنا له ولمثله من المؤلفات تبدو ماسة، خاصة وأن محاكاتنا لتفاصيله لن تكون صعبة، لا بل إنها ستكون مسلية ومليئة بالطرافة، فسوريا وكذلك منطقة الشرق الأوسط، لابد ستكون فضاءً تطبيقياً مذهلاً في حال أراد أحد ما أن يصنع نسخة خاصة بها، أو لنقل نسخته الخاصة من “نظام التفاهة”، وهذا ما ذهبت إلى مثله مترجمة الكتاب التي وضعت مقدمة مطولة له، حين أشارت إلى أنها لو أرادت صناعة كتاب يحكي عن التفاهة لما خرج كتابها عما ذهب إليه المؤلف!
ومن هذه الزاوية وبالقياس إلى الحالة السورية الراهنة لن نجد صعوبة في صناعة نسختنا الخاصة، فالنظام السياسي الذي حكم سوريا طوال العقود السابقة وفرض على شعبها عقليته الرديئة في كل مجالات الحياة، كان من التفاهة بحيث أدى تحكمه بالسوريين
ومصائرهم إلى الكارثة التي يعيشونها حالياً، والتي لا يظهر في الأفق أي مؤشر على أنها ستنتهي قريباً، سيما وأن السياق الذي وجد النظام فيه ديمومته يقوم على تعاضده مع الآخرين من أمثاله عبر كلّابات متينة قوامها المصالح المافيوزية عابرة للقارات وللإيديولوجيات في آن معاً، لا يمكن تفكيكها وفصلها عنها كما يتضح لنا كسوريين وبعد تسع سنوات من الثورة إلى أن تم تدميرها أيضاً!
وإذا نظرنا إلى التداعي القيمي الذي فرض نفسه واجهة حقيقية للنظام العالمي الراهن، وهو ما أظهره تقاعس الجميع عن إيقاف المذبحة في سوريا، نرى كيف أن نظام الأسد هو ركن أساسي في منظومة راسخة اتفقت القوى الدولية على وجودها لتلعب دوراً أساسياً في تثبيت الخلل الحاصل في الإقليم كله، والذي نشأ منذ أن قامت دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة!
النظام العالمي التافه- منحدر القيم الذي وافق ورضخ لقيام دولة إسرائيل على أنقاض الحلم الفلسطيني، سكت وصمت عن كل المآسي التي خلفها وجود هذا الكيان، وهو ذاته من سكت على وجود كيانات ثيوقراطية، وأنظمة عسكرية ديكتاتورية
حكمت شعوبها بالحديد والنار، وهو من رعى قيام هذه الأنظمة بدعم الثورات المضادة التي قضت على أحلام هذه الشعوب بالتحرر من الأنظمة الهمجية التي تحكمها!
التفاهة تنتقل من الأنظمة إلى معارضاتها، فتصبح هذه المعارضات محكومة بذات القيم، وتراها بعد حين تعيد إنتاج القيم التي يصر النظام على بقائها، فتصبح كمؤسسات وكأفراد في الوقت ذاته منتجة للقمع بدلاً من أن تسعى لتدميره، وإذا نظرنا بعمق في جوهر غالبيتها سنرى كيف أنها لا تختلف عن النظام الذي تعارضه طالما أنها لا تقوم بالقطع مع أسلوبه وقيمه وآليات عمله وتفكيره!
والتفاهة ذاتها تنتقل للأفراد في عموم المجتمع، حين تصبح الوسطية غاية وشعاراً وهدفاً، يمكن التعبير عنها سياسياً بالقبول بجزء من هذا وجزء من ذاك وإمكانية تعايش هذين الجزئين في صيغة نظام جديد، وهو ما يتم التعبير عنه في الطروحات التي تقدمها أحزاب المعارضة تحت سقف النظام، والتي تجد إمكانية لإصلاح النظام، دون أن ترى وبسبب من تكوينها بنيوياً وفقاً لروح الممكن الذي يسمح به النظام ذاته، حقيقة أن أي محاولة للإصلاح الحقيقي تعني فيما تعنيه انهيار منظومته كلها وهذا ما لن يسمح به أحد، فلا النظام في وارد الانتحار ولا المعارضة التي بنت وجودها على وجوده تريد ذلك، كما أن دول الإقليم لا تبدي مثل هذه الرغبة، إضافة إلى أن شعار إسقاط النظام لم يكن يوماً مطروحاً على جدول أعمال القوى العظمى، حتى وإن ادعت أنها تقف مع الثورة ضده!
وجود نظامنا السوري التافه واحد من أبرز مؤشرات تعاظم التفاهة وانحدار القيم في النظام العالمي ذاته، فهذا النظام لم ينصف شعباً ثائراً، ولم يدفع عن الضعفاء مذبحة، وهو يقف في صف القامعين ضد المقموعين دائماً، فإذا لم تكن التفاهة عنوان ما يحكم حياتنا في شرقنا الملعون فهل كنا سنتبعثر كالمنبوذين في شرق الأرض ومغربها، على أمل أن نصحوا ذات يوم وقد تغير شيء ما في مكان ما دون أن نضطر إلى دخول اللعبة؟!
المصدر: تلفزيون سوريا