لطالما كانت علاقة السوريين بصحتهم قائمة على “التوكل”، ففي تكوين وعيهم ظلت المسألة ترتبط بالقدر، رغم ما قدمه التعليم والإعلام من ضرورات الالتفات الإرادي إلى الوقاية، والانتباه إلى الصحة الشخصية للإنسان.
يسود لدى غالبية الناس يقينٌ بأن من يحميهم هو الخالق: فيقولون “الحامي هو الله”. وحتى الوقت الحالي، ورغم كل المصائب السالفة والراهنة ترسخ القول؛ إن “الشام محروسة بأولياء الله”!
كان من اليقينيات غير الخاضعة للتمحيص والتأكد، أن هواء الغوطة، كما الهواء القادم من الربوة ومن خلفه دمر والزبداني ومضايا وبقين، وكما هواء الجنوب من جبل العرب وحوران والجولان، يحمل إلى “الشوام” وسكان دمشق على العموم بنقائه صحة مضاعفة، تسندها مياه عين الفيجة النقية التي كتب الكثيرون عنها بوصفها أكثر أنواع المياه صحة لشاربها!
نتحدث هنا عن دمشق، لكن وعياً مشابهاً حكم كل المناطق السورية، وربما عموم بلاد الشام التاريخية، وصار من غير الممكن الاعتقاد بأن الطبيعة الطيبة لا يمكن أن تؤذي شخصاً يعيش في هذه البلاد!
وربما لو دققنا قليلاً لرأينا أن التفكير بالمرض أو باحتمال وقوع المرء فيه، لن يرتبط بالطبيعة ذاتها والاحتمالات الوراثية للجسم البشري، بل سيأتي لسبب طارئ، أو سيتسبب به أحد ما، سيأتي بالوبال والأذى للأخير، فقالوا: من يوم أتى فلان، جاءت المصائب، وحل المرض والوباء!
في زمن الملمات، كان السوريون يطمئنون على أحوال بعضهم بعضاً، فيواسون أنفسهم بالقول: “المهم الصحة بخير”! ما يوحي فعلياً بأن علاقة الإنسان بصحته كانت وما زالت مرتكزة على يقينه بوجود الحماية الفاعلة، ذات المنبع الإلهي. إنها منحة الله للإنسان، وطالما وجد الخالق، فإن خراب الصحة هو جزء من المصير المقدر للجميع!
أطباء دمشق بدورهم وبحسب مشاهداتي العامة، لم يكونوا بعيدين عما يعتقده ويفكر فيه الناس، فهم يدركون أن زيارة المريض لهم، لا تخالف التفكير العميق بعدالة المصير الذي يقدره الخالق للمرء، ولهذا فإن اللوحات المزخرفة التي احتوت قوله تعالى “وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ” (الشعراء 80) كانت أشبه بمفتاح للتفاهم بين العقلين، العقل المؤمن بأن كل شيء يرتبط بحكمة الخالق، والعقل الذي يرى أن البُرء من الأمراض يحتاج إلى العلاج قبل أي شيء، دون أن ينقض وجود الثاني الأول، أو يتضاد معه. ولهذا كان التقدير لهم في الوعي الشعبي كبيراً، حتى صارت شخصية الطبيب منزهة ومجللة بالاحترام، والدفاع عن الأطباء وحمايتهم من الأذى، كان جزءاً من وعي السوريين.
يتذكر الجميع علامة سوداء بقيت عالقة في سقف تاريخ دمشق هي حادثة اغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، السياسي السوري التنويري، الذي قتلته أيدٍ ظلامية، رأت في أحد خطاباته تعريضاً بالدين، فقررت أن تثأر له، ونفذت الجريمة حينما دخل أفرادها إلى عيادته مدعين مرض أحدهم، وحين هم بفحصه أطلقوا النار على الطبيب الثائر، فخرج أهل الشام كلهم في تشييعه عام 1939، مستنكرين فعلة الحمقى، فالرجل وقبل أن يكون سياسياً كان طبيباً يعطي المرضى أمصال العافية!
الجملة المأثورة التي تناقلها السوريون عام 1966 عن الصحفي اللبناني القتيل كامل مروة، والتي قال فيها: “سوريا يحكمها ثلاثة أطباء، لا بد أنها مريضة”! ظلت تحمل دلالة كبيرة في سياق تفحص وقائع التاريخ السوري، حيث ربض في ثناياها مجازٌ كبيرٌ، قوامه المفارقة بين أن يقع المرضُ بمن لا يمرض (سوريا)، وأن يتم استنتاج ذلك من وجود ثلاثة أطباء!
تقترب الفكرة التي بنى عليها الرجل عبارته من اعتقاد عميق، بأن سوريا باتت محكومة بمن لا يفقهون بالسياسة، فعمل الأطباء هو الطب وليس السياسة، وأن هؤلاء اليساريين الحالمين سيدمرون البلاد والطب والسياسة أيضاً!
فعلياً كان هذا جزءاً من خطاب البرجوازية السورية التي تعارضت مصالحها مع البعثيين “الشباطيين”، الذين اتبعوا خطاباً سياسياً متطرفاً، نفر منه السوريون عموماً، وليس أصحاب المصالح الصناعية والزراعية والتجارية فقط!
لقد اتفقت ظروف البعث على أن يتولاه أولئك الأطباء في تلك اللحظة التاريخية، فهو المريض الأزلي، الذي نغل فيه دود الخيانات، والخروج عن المبادئ، والارتباط بالأجندات الإقليمية من جهة، والطائفية لبعض قادته من جهة أخرى!
فتبدى مشهده النهائي عن ديكتاتور دموي، زج برفاقه الأطباء د. نور الدين الأتاسي رئيس الدولة، ورئيس الوزراء د. يوسف الزعين ووزير الخارجية د. إبراهيم ماخوس، في سجونه!
ومرضت سوريا فعلاً، بالقمع والإرهاب وتكميم الأفواه، وتدمير الفضاء العام، وإنهاء الأحزاب، إما استزلاماً أو سجناً. ولم يعثر السوريون طيلة ثلاثين سنة من حكم الأسد الأب على طبيب يصلح أحوالهم، ويشفي مرض بلادهم!
استفحل المرض أكثر فأكثر مع تولي بشار الأسد منصب أبيه، بعد أن هلل الكتبةُ والمهرجون لحكاية طبيب العيون الشاب، الذي يُبصر تاريخاً عظيماً! لبلادٍ سلمه أبوه إياها على طبق من دهاء وخوف!
ولكن لعنة الدم تدمي القلوب وتعمي العيون، فلم ينفع السوريون أن يحكمهم طبيب، بل زادت جروحهم تقرحاً، فمرضوا وغرقوا في دهاليز الفقر والجوع، وتناوبت على آلامهم طوابير جنود دول احتلت أرضهم، وأسقتهم مر العلقم، وفصائل ادعت نصرة ثورتهم، فقتلتها، ودمرت أحلام شبابها، وأجبرتهم على الرحيل إلى المجهول شرقاً وغرباً.
وها هو وباء الكورونا يفاقم صناعة الأذى، واستنزاف ما بقي فيهم ولديهم من كل مقومات الحياة.
لقد قتل الأسديون مئات الكوادر العاملة في المجال الصحي خلال سنوات الثورة، وفعلت الفصائل المتطرفة بالجسد الطبي الأفعال ذاتها، وخرج من البلاد آلاف من الأطباء، بعد أن تحولت الحياة فيها إلى جحيم. وصار الخوف من المرض وتكاليف العلاج حاضراً وراسخاً في يوميات السوريين، بعد أن عادت إلى حيواتهم أمراضٌ سبق أن أعلن رحيلها عن البلاد منذ زمن طويل!
رَصدُ التحول في وعي الكارثة ومفردات قسوتها، كان يأتي من تلاشي ثقة الناس بأنهم محميون!
فكما لم تعد الدولة وجيشها يحميان البلاد وسكانها، لم يعد للأطباء والعاملين في المجالين الصحي والطبي أي حصانة، إذ كان عقاب من يتم الإمساك به يؤدي واجب دعم المناطق الثائرة بالمواد الطبية هو الإعدام الميداني، كما أن غالبية السجناء من الأطباء، غابت أخبارهم وراء القضبان في أقبية التعذيب والموت!
لقد جاءت حرب الأسد على شعبه، بأكثر مما يمكن للعقل الجمعي للسوريين أن يتوقعه، لقد رأى الجميع قصف المستشفيات، وتدميرها بحجة تحصن الإرهابيين فيها!
وفي سياق تذكر القائمة الطويلة من الشهداء، قام قناصة النظام ومنذ بداية الثورة السلمية بتصفية الأطباء المشاركين فيها، وفي سياق تحولاتها تعرض الباقون إلى الموت قصفاً، بينما كانوا يؤدون واجبهم المقدس!
الفيلمان السوريان اللذان وصلا في عام 2019 إلى القائمة القصيرة لجائزة الأوسكار وأقصد فيلم (الكهف لفراس فياض) وفيلم (إلى سما) لوعد الخطيب، كانا يتحدثان ببلاغة مرعبة (يأتي رعبها من تحول المجازات إلى وقائع دامية) عن مأساة الكوادر الطبية في ظل حرب النظام وحليفيه الإيراني والروسي ضد الثائرين.
وبعد كل هذا، ومع مرور قائمة طويلة للأطباء الذين قضوا في سوريا بسبب الوباء، يسأل أحد ما، لا يريد أن يزيح عن عينيه عصابة تجهيل العقل وتعمية الحقائق، فيقول: لماذا مات كل هذا العدد من أطباء سوريا؟
*تلفزيون سوريا