علي سفر: “منزله”.. حين يصبح اللجوء تفصيلاً سينمائياً مرعباً

0

يشعر المشاهد بالغرابة وهو يرى فيلماً سينمائياً يستخدم أدوات الإيهام أو مفردات صناعة الرعب، في سياق مختلف كلياً عما اعتدناه في أفلام هذا النمط الدارج! أثر الرعب وتكوينه أيضاً، في الملامح التي تطفح بها هذه الأفلام، يؤثر في هواة النوع، لكنه أشبه بتناول وجبة سريعة، ثم مغادرة المكان من دون تذكر تفاصيلها، أو حتى تذكر طعمها! ثمة اشتغال على التحريض النفسي الذي يصنعه الرعب وأدواته بالمشاهد، والذي يؤدي إلى التطهر من البواعث المؤذية للنفس، لكنه قليل في مجال صناعة هذا الخط الإنتاجي المرغوب في السينما. لهذا، يلفت الانتباه، أن يعثر المشاهد على فيلم يفعل هذا الشيء، ولا بد أن يكون الأمر صادماً حينما نجد فيلماً يقترب من ثيمة راهنة كمسألة اللجوء، ويقدم للمشاهد ما يرغب فيه، إن أراد أن يرتجف قليلاً، لكن المدهش أنه سيفكر بما شاهده حتى بعد انتهاء واقعة المشاهدة!

هذا الفعل يصنعه وبجدارة فيلم (his house) للمخرج البريطاني ريمي ويكس Remi Weekes الذي أنتجته شركتا BBC Films, New Regency، وأطلقته شبكة نتفليكس قبل أيام، ليكون متاحاً للمشاهدة حول العالم.

يحكي الفيلم قصة بول (SopeDirisu) وزوجته ريال (WunmiMosaku) اللاجئين في بريطانيا، الآتيين من جنوب السودان، وتحاصرهما متطلبات قوانين اللجوء، من ضرورات إثبات القدرة على الاندماج، وإقناع المؤسسات المعنية أنهما صالحان للعيش في المجتمع الجديد، تحت طائلة إلغاء اللجوء وإعادتهما من حيث أتيا!

يُمنح الزوجان منزلاً واسعاً، بعد إخراجهما من مخيم الاستقبال الأولي، يحسدهما عليه الموظفون البريطانيون أنفسهم، لكنهما يجدان أنفسهما متورطين في مساحة مكانية كبيرة، لا يحتاجانها. إلا أن أخطر ما يحصل لهما هو أن الجدران الواسعة، ستكون كافية للإفصاح عما يعانيانه من تبعات رحلة اللجوء الخطرة، والتي يرى المشاهد أنها أفقدتهما طفلتهما، غرقاً في مياه المحيط!

هكذا، ستظهر للزوج بول صورٌ لجثث متفسخة، تمد أيديها باتجاهه لتسحبه، وتغافله من الخلف وجوه لسحرة وشياطين أفريقية، تصرخ، وتحيط به بأصابع حادة لتخنقه. وما بين الوهم والحقيقة، سيرى بول هذه الشخصيات المخيفة لتختفي في فتحات الجدران، التي سيحاول كشف ما تحتويه بنزع ورقها، ثم تهشيمها! وفي المقابل ستظهر مشاهد قريبة للزوجة ريال، مع حضور أكبر لشخصية ناغاك الطفلة الغريقة، وصوت داخلي يطالبها بقتل زوجها كي تستطيع استعادة ابنتها!

يكتشف الموظفون ما ألحقه بول من دمار بجدران المنزل المرعب، ويصبح من الضروري مواجهة الحقيقة المستنتجة من أفعاله؛ إنه لا يستطيع الاندماج، وهو يقوم بتخريب الممتلكات! لكن أحداً لا يلتفت إلى ما يعانيه هو وزوجته من مشاق في التعاطي مع الذاكرة، والمخيلة!

تقول ريال للممرضة في المركز الصحي: لقد أتيت من بلد تتقاتل فيه قبيلتان، وتذبح كل واحدة منهما أفراد القبيلة الأخرى! لقد أزلت كل ملامح الانتماء لأي منهما فنجوت! بينما يقول بول لموظف آخر: أشباحنا تتبعنا، تلاحقنا، وتعيش في داخلنا، وتعيش معنا في أي مكان نذهب إليه.

سيكتشف المُشاهد في التفاصيل المكثفة لظهور العوالم الداخلية للشخصيتين، ما بين الأحلام والوقائع الحقيقية، أنهما لم يكونا في أي وقت من الأوقات أباً وأماً للطفلة الغريقة، بل إن بول استخدمها ليقنع موظفة الإغاثة التي منعته من ركوب حافلة النجاة بحجة أن الأولوية للأطفال، بأنهم يشكلون معاً عائلة، ما يعني في المحصلة أنه قام باختطاف طفلة لينجو! ما يعني أن مواجهة الآثام الواقعة في الماضي، لا بد ستحدث في وقت ما من الحاضر، ولهذا سيختار الزوج مواجهة الصوت الداخلي المدمر، والذهاب إلى أخر الخيارات، وتقديم دمائه على مذبح المحاسبة، والذي تخرج شياطينه من صندوق الزمن المنقضي، إلى لحظات الحاضر القلق والمترجرج.

النجاة من الواقع، كفكرة يهجس بها اللاجئ طوال رحلته، تحدث مادياً حال وصوله إلى بر الأمان في أي من بلدان اللجوء، لكن التحرر من الذاكرة الأليمة، التي تنشب مخالبها في كل تفاصيل يومياته، يحتوي معاناة هائلة، قد تقلب معنى النجاة رأساً على عقب. فيصبح اللاجئ وهو يمر في منحنياتها الخطرة، أشبه بعربة فولاذية تدمر كل ما يعترضها.

ولهذا فإن جزءاً غالباً من خطاب الفيلم يؤشر إلى تفكير واجب، على المؤسسات الفاعلة في قضايا اللجوء ألا تهمله! فالبشر القادمون للنجاة بأرواحهم من القتل في بلادهم الأصلية، لن يتخلصوا بسهولة من حمولات القهر والمآسي والمعاناة، إلا من خلال تقديم المساعدة النفسية لهم، ولابد أن إهمال هذا الجانب سيؤدي إلى تفاقم الجروح الداخلية، وتمددها وبروزها إلى الخارج، مثل الأدوات الحادة التي تجرح وتؤذي كل من يلمسها.

في أول تجاربه السينمائية الطويلة، تتبع مخرج الفيلم في سياق إنشاء صوره المتتابعة لهذه الحكاية المثيرة، خيط الانفعالات الداخلية للشخصيتين، من دون مبالغات مجانية، فلم ترتفع جرعات مشاهد الرعب الصادمة، إلى عتبات غير منطقية، بل ظلت متلاصقة مع التحولات الداخلية، وكأن الصورة هنا هي صوت الجوقة في التراجيديا اليونانية، فلا تنطق إلا بما لا تستطيع الشخصيات أن تقوله بصوتها أو بملامح وجوهها المتغضنة، والمنكمشة، وكأنها في حالة صدمة مستدامة.

وما بين المشاهد المصنعة غرافيكياً، وما بين استخدام ممثلين يظهر أنهم ينتمون إلى عالم الخشبة المسرحية، يُسجل أن أهم ما يثيره الاشتغال التقني والبصري للمخرج على الحكاية، هو القدرة على استثمار الآلام البشرية في زاوية غير مستهلكة (حكايات اللجوء) لصناعة خطاب يؤنسن الرعب، من خلال أنسنة الضحايا، الذين يظهرون على الشاشة غير منقطعين عن السياق الذي يعرفه المتلقي/ المشاهد! ما يؤدي في المحصلة إلى ضبط جرعاته، فلا تنزاح صوب المجانية، التي تغرقنا بها الأفلام التي تحتل مساحات هذا النوع من الأفلام!

*المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here