علي سفر: مرافعة ضد “المؤثرين”

0

يقول خبر مزعج، نشرته وكالات الأنباء: إن ثلثي المعلومات المغلوطة حول ضرر لقاح كورونا المنتشرة في شبكات التواصل الاجتماعي، نشرها 12 زعيماً للرأي الاجتماعي، يملكون أكبر عدد من المتابعين في شبكة الإنترنت!

ووجه المضايقة فيما أبرزته هذه الدراسة التي أعدتها مؤسسة “مركز مواجهة الكراهية الرقمية” البريطانية، يتأتى من أن بث التكهنات على أنها حقائق، في مسائل صحية وطبية يمكن اعتباره بمثابة الجريمة، ويأتي أيضاً من زاوية تتعلق بطبيعة ونتاج عمل قادة الرأي على شبكات السوشيال ميديا، والذين يسمون بـالمؤثرين!

إذ إنه بعد سنوات من التوسع العملاق لهذه الشبكات، وتشبيكها بين المصالح التجارية والاقتصادية، وبين النوافذ التي يفتحها شبابٌ طامحون للشهرة، يخاطبون من خلالها أقراناً لهم، حول قضايا تخصهم.

أمسى حضور المبرزين منهم واضحاً، لا يمكن تجاهله، لا سيما أن فعاليتهم لم تعد محصورة بالفئات التي يستهدفونها، بل امتدت لتشمل جانباً تجارياً تسويقياً، حيث تستفيد الشركات من أعمالهم لتعلن عن منتجاتها، وفي المقابل ينال هؤلاء مقابلاً مادياً مغرياً، بالإضافة إلى شهرتهم وما ينتج عنها من مشاركتهم في فعاليات إعلامية وفنية وربما سياسية!

كُتب الكثير في تحليل ظاهرة “المؤثرين” ومؤدياتها، وبعض القراءات تقول: إن تطور شبكات التواصل الاجتماعي، سيؤدي، وبشكل دوري، إلى خلق أدوات تصنع خطاباً مختلفاً على المستوى اللغوي، وعلاقات غير تقليدية على الصعيد المجتمعي. وضمن هذا المسار سيصبح “المؤثرون” كأدوات، جزءاً أساسياً من عملية التحول، إذ سيقودون الجموع في الاتجاه الذي يريدونه، طالما أن متابعيهم يعودون إليهم، ويركنون لما يقولون!

هذا الشكل المبسط للعلاقة بين “المؤثر” والمعجبين، لا يقوم على فراغ، بل ثمة مادة مثيرة جاذبة يعمل عليها، ويقوم بالنشر حولها؛ (فنون، ثقافة، هوايات، تدريب، مواقف حول قضايا مجتمعية خاصة ومحددة. الخ) وستساهم قدرات الشخص وبراعته في زيادة عدد متابعيه، ومع الوقت سيصبح هذا الحضور شرهاً، فيطالب “المؤثر” بأن يتوسع في معالجة قضايا عامة، لا تخصه فعلياً، ولكن إحساسه بتملك القدرة على التأثير بالآخرين، وكذلك تملكه لقوة المنبر وسلطته، سيمنحانه الشرعية لأن يدلي بدلوه، في كل القضايا التي تثار في الإعلام.

تَمكّن المؤثر ووصوله الواسع، لا يعني أنه قد بات صاحب الأمر، في العلاقة مع “جمهوره”، بل إن حاجته للمتابعين، هي أعلى من حاجتهم له، خاصة أن سوق السوشيال ميديا بات يحتوي على منافسين أيضاً، ومن أجل المحافظة على أعداد المتابعين وزيادتها، سيكون عليه أن يقدم لهؤلاء ما يرضيهم، وشيئاً فشيئاً، سينحدر الخطاب إلى المنزلقات الشعبوية، التي تحتاجها الجموع لتشعر بوجودها.

 ولكن ماذا نفعل إذا كانت دِلاء (جمع دلو) “المؤثرين” ممتلئة بالترهات؟ وماذا نفعل إذا كانت مياه الآبار مسمومة، أو مخلوطة بترياق العبط والجهل؟ 

بالتأكيد سنحصل على نتائج مدمرة، مثل تلك التي يحكي عنها الخبر أعلاه، إذ لا يعقل أن يقوم هؤلاء بالتأثير بمصائر حياتية للملايين من دون أن يتم إيقاف نشاطهم المؤذي، لا سيما أن كل الإجراءات التي اتخذتها إدارات مواقع كفيس بوك وتويتر وإنستغرام من أجل منع تداول المعلومات المغلوطة، لم توقف المد العالي لتخرصات الاعتقاد بوجود مؤامرة خلف اللقاح المضاد لكورونا!

في المشهد السوري، هناك مقاسات مصغرة لهذه الفقاعة، إذ يوجد بضعة سوريين من فئة الميجا إنفلونسرز (يمتلك أكثر من مليون متابع)، وقلة من فئة الماكرو إنفلونسرز (يمتلك بين أربعين ألفاً ومليون متابع)، بينما ثمة كثيرون من فئة مايكرو إنفلونسرز (يمتلك أكثر من ألف متابع)، وكثافة واضحة لفئة النانو إنفلونسرز (لديه أقل من ألف متابع).

ونستطيع بشكل أولي يقوم على المشاهدة والمتابعة الشخصية تقسيم هؤلاء المؤثرين إلى فئتين:

الأولى، وقوامها مراهقون وشباب صغار يحاولون تقديم مواهبهم، وتمكنوا مع الوقت من الحصول على عدد كبير من المتابعين. وفي تقييم سريع للمضامين، سنلحظ أن هؤلاء لا يقدمون محتوى سياسياً، وإذا اضطروا لذلك فإنه سيظهر مائعاً، يميل إلى إخفاء الخطوط الفاصلة بين الخنادق التي يتمترس فيها السوريون، كمؤيدين ومعارضين، كما يلاحظ تهربهم من الإدلاء بأي تصريحات تخص قضايا شائكة كمسألة اللقاح وغيرها، وبالعودة إلى المحتوى الفني، فإن قلة منهم استطاع تقديم شيء لافت!

أما الثانية، فتتألف من شخصيات متعددة المشارب، فهذا مثلاً كان موظفاً في إحدى المؤسسات قبل الثورة، وذاك كمثال أيضاً درس السينما، لكنه وجد نفسه أمام الكاميرا بدلاً من أن يكون خلفها، وهناك ممثلون وسياسيون وكتاب وناشطون، وغير ذلك. تنتمي غالبيتهم إلى المعارضة، ويتوجهون إلى طيف واسع، مهتم بالقضايا السياسية والمجتمعية.

ورغم أن منطق الظاهرة يقوم على التخصص أولاً، فإن ما يحصل هو قيام هذه النوعية من “المؤثرين” بالحديث عن كل شيء، فهم يتدخلون بشؤون الجميع، فتارة ينشطون كمصادر إخبارية، ويحلون مكان الصحفيين (رغم أن بعضهم أتى من هذه المهنة)، وتارة يصبحون نقاداً للدراما، في المواسم الرمضانية، أو حينما تثار ضجة حول عمل ما، كأزمة فيلم “أصحاب ولا أعز” الراهنة، وتارة أخرى يتوجهون بالنقد الصاخب والعارم لمؤسسات المعارضة الرسمية ذات الحيطان الواطئة. 

كما تتعدد أنشطتهم، تبعاً للمستجدات، فتجد بين مواضيعهم في الأيام الماضية قصصاً متباينة كمدعي النبوة اللبناني نشأت مجد النور، وهجوم داعش على سجن الصناعة في الحسكة.

وكغيرهم، يسعى هؤلاء إلى الظهور، لا بل إنهم يستقتلون من أجله، حتى وإن كلفهم فقدان الاتزان! كما أن بعضهم، لاسيما أولئك الذين جاؤوا إلى هذا الأمر بعد تجارب في العمل المعارض، يخوضون تصفيات سياسية مع خصومهم، مع نزعة طهرانية ملفقة؛ تبدأ من وضع صور شخصية تظهرهم دائمي الغضب، ولا تنتهي بإنكار أدوارهم السابقة، مروراً بإظهار أنفسهم كضحايا! مع استدعاء شبه يومي للخطابات الشعبوية التي ترضي متابعيهم! وغياب شبه تام للحوارات السياسية، في منابرهم، الأمر الذي يعني في المحصلة أننا وبدلاً من خلق مساحات ديموقراطية لتبادل الآراء المتعددة، والنزوع صوب الحوار، سنكون في مواجهة التصلب، والتشكيك الدائم بوجهات النظر المخالفة، طالما أن هذا يجلب آخرين، يتماهون معهم في الفعل التدميري، والعدمية السياسية.

تم منح ظاهرة “المؤثرين” وبوصفها ظاهرة جديدة ولافتة، بعضاً من ملامح “التقدمية”، لكن بعد كل هذا الوقت، وإثر التدقيق فيما أنجزه هؤلاء، نسأل: هل يُعتبرُ المرء رجعياً ومحافظاً إذا رفض سيطرتها على الفضاء العام، وأعلن موقفاً معارضاً لكثير من تجاربها، بسبب رداءة ما ينشره أفرادها؟!

*تلفزيون سوريا