للفيلسوف الألماني هيدغر في رسالته حول “النزعة الإنسانية” عبارة متينة ولكنها مرهقة وبشدة، يقول فيها: “إن ماهية الممارسة تكمن في الإنجاز والإنجاز معناه بسط شيء ما في تمام ماهيته، وبلوغ ذلك التمام بحيث يكون الإنجاز هو الإنتاج بمعناه الأصيل”.
المتعب في العبارة يكمن في التوضيح بأنه لا قيمة لأي ممارسة دون نتيجة، وهو يتحول إلى أكثر من مجرد تعب حال إدراكنا أننا نعيش بلا ممارسة، وبلا إنجاز، وفي المحصلة بلا إنتاج!
ربما يكون من المجحف بحق الفكرة الفلسفية، أن نسوقها لمعايشة حال واقع القوى السياسية السورية، وممارساتها حين تعيش تخبطاتها القاسية، وأزماتها المستدامة.
لكننا في الوقت نفسه نحتاج إلى أفكار تعيدنا إلى مربع الثورة الأول، لتخرجنا من الصندوق المغلق الذي لم نخرج منه طيلة الفترة السابقة، ولكن ماذا سنفعل إذا كانت إحدى الأفكار التي رميت في طريقنا، تحت الشعار ذاته، أي الخروج من الصندوق، أتت بعكس ما أريد منها؟
يصح أن نقول عن قصة المجلس العسكري السوري، التي شغلت جزءاً واسعاً من المعلقين والمتابعين طيلة أكثر من أسبوع إنها “همروجة”، بدأت في الظلام، وتم الترويج لها تحت أضواء الإعلام المبهرة، دون أن يعرف أحد من أين بدأت، حتى أنهى الفنان جمال سليمان الصراع حولها، حينما صرح عن قيامه بطرحها أمام الجانب الروسي.
لكنها انتهت في زاوية جانبية، على هامش العودة إلى محادثات أستانا في سوتشي، في عتمتها المريبة، حيث أعلن الروس على لسان المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، أن المحادثات العتيدة لن تتضمن شيئاً من هذا القبيل، ما يعني فعلياً أنهم غير مهتمين بها، وأنها لا تعنيهم!
مرة أخرى، تظهر قصة ما، فيتداولها السوريون وهم يعيشون انسداد الأفق السياسي، والميداني، فيستبسل البعض في نشرها والترويج لها، لغايات شخصية، ويقوم بذلك آخرون لغايات عامة، فيطنبون فيها، وكأن تكرار الحديث عنها يرسخها ضمن السياق، فتصبح أمراً واقعاً على الأرض!
ولكن محصول الحقل في زراعة الريح لا يأتي سوى بالريح، ويقال إنه يأتي بالعواصف، ولكن أي نوع من العواصف؟
هل هي الصراعات والشجارات، والتحزبات التي حملتها ردود الأفعال على الفكرة، ربما، غير أن أسوأ نتائج ما جرى في القصة السورية، هو ثبات الانقسام السوري تجاه أي مسألة!
لقد بات حدوث مثل هذا الانفصال بين الكتل المتراصة المعادية لنظام الأسد أمراً مبرماً، في ظل الوضع السكوني الحالي الذي تشهده المعركة معه، إلا أن الشقاق الراهن -لا نعرف إن كان سينتهي تجاه هذه “الهمروجة” أو غيرها- لم يأت على أرضية وجود خيارات عدة لدى السوريين، بل إن اقتراح الفكرة قد حُمل للجمهور على أرضية تلاشي كل الآمال بحدوث أي حركة في ملف اللجنة الدستورية، وعدم وجود أي مؤشر لدى النظام وحليفه الروسي يوحي بأنهما مقبلان على تقديم تنازلات من نوع ما!
ورغم كل هذا المشهد السوداوي، الذي يمكن اعتبار فكرة المجلس التماعة شبه وحيدة فيه، حدث أن انقسم الجميع على الجميع، بين مندد بعودة العسكر إلى الواجهة، بعد أن كان مطلب الثورة هو تخليص البلاد من حكمهم!
وبين مرحب بهم رأى في الحديث عن كتلة الضباط المنشقين إشارة إلى عودة المحترفين الذي همشوا طويلاً في سياق الثورة السورية، للعمل في سياقها، في هذا الوقت الحرج من تاريخها!
وطبعاً لن يزيد أو ينقص في الأمر ملاحظة الهجوم على العميد المنشق مناف طلاس نجل وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس، بعد أن جرى تداول اسمه كرئيس للمجلس المفترض، بترشيح من كتلة الضباط المنشقين كبيرة العدد (يقال إن عددهم 1400 ضابط)، وأيضاً الانتباه في المقابل إلى وجود من دافع عن الرجل بقوة، توحي بأن السياق السوري الراهن لن يتم حله إلا عبر وجود الكاريزمات الموشاة بالرتب العسكرية!
لقد مرت على السوريين قصص مشابهة طيلة العقد الماضي، انتهت كلها، ولم يبق منها سوى بقايا حروب اندلعت حولها على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، تراها في الخصام بين الأفراد والجماعات، فأوحت دائماً أن الواقع السوري كان يمضي يوماً بعد يوم إلى هيكل بلد، منقسم على ذاته عشرات ومئات المرات، وتنشطر قواه بغير هدى، إلى عشرات ومئات التوجهات والتيارات!
وبفعل الانزياحات التي تسببها ضغوط هذه القوى، سنكتشف أن الأمل المفقود من وجود أي حل للمأساة السورية، هو ذاته انعدام ثقتنا حالياً بوجود ما يجمع السوريين!
لكن قراءة العوامل النفسية والمزاج، اللذين يحكمان أصوات السوريين القادرين على التعبير عن أنفسهم، والتصريح عما يجول في رؤوسهم، يوضح أن الغالبية تدرك أساس المشكلة، أي وجود الأسد وداعميه، وأن موافقتها على أي حل حتى وإن حمله إليهم الشيطان ذاته، حتى وإن شابه الصراع والاختلاف بالآراء حوله، إنما هو تأكيد على أن الأولوية في أي شيء يطرح هي التخلص من زمرة الإجرام في دمشق.
وهؤلاء وبحكم وجودهم في المنافي وفي مناطق لا يستطيع الوصول إليها، هم أولئك المعارضون الذين لا تستطيع آلة الأسد القمعية أن تنال منهم، مثلما تفعل حالياً مع بعض الأصوات العالية في معسكر المؤيدين له، وأيضاً أولئك الذين يعيشون تحت سيطرته.
لقد تكلم هؤلاء، وما زالوا يطمحون لأن تكون أحلامهم (إسقاط النظام والعودة إلى سوريا) واقعاً يفرض ذاته، بوصفها خلاصة تعبيرهم بأنفسهم عن أنفسهم، فإذا كانت القوى الدولية والإقليمية، وحتى تلك المحلية قد همشتهم، فإن أي اقتراح خارج الصندوق، وإسقاط الأفكار عليهم بمظلات مرقطة، ودون أن يبدأ بهم، لن يكون ممارسة تأتي بالإنجاز، بل سيبقى مجرد ترهات تلوك الأوهام بلا معنى!
*تلفزيون سوريا