يتعرّض المواطنون السوريّون النازحون(*) إلى وطننا لبنان، لحملة عنصريّة تبدأ بتضخيم أرقامهم ومنع تجوّلهم وإشاعة صورة بشعة ومخيفة عنهم وعن “جرائمهم” و”سرقاتهم”، وتنتهي باحتمال إعادتهم إلى نظام بشّار الأسد الذي يصادر بيوتهم وأراضيهم، ولن يتردّد، إذا ما عادوا بالطريقة التي يريد لهم البعض أن يعودوا، في إذاقتهم سائر أشكال المرارة وتعريضهم لسائر أشكال الانتهاك. وهذا فضلاً عن أنّ جزءاً معتبراً منهم لا يستطيع العودة، ولو بشروطها الرديئة والعشوائيّة، لأنّ مناطقهم وبيوتهم لا تزال محتلّة.
إنّنا، نحن العاملين والعاملات في مجالات الكتابة والصحافة والفنون والتعليم، نعلن براءتنا من هذه الحملة التي تُشنّ باسم لبنان ومصالح اللبنانيّين، ونرى أنّها تستهدفنا كما تستهدف النازحين السوريّين، إسكاتاً لأصواتنا وقمعاً لحرّيّاتنا.
ومن موقع تمسّكنا بالوطنيّة الدستوريّة اللبنانيّة، وبقيم الحرّيّة والتعدّد، وبنظام الديمقراطيّة البرلمانيّة، نرى أنّ أنبل القيم تنقلب إلى نقيضها حين تتجرّد من مضمونها الإنسانيّ تضامناً وتعاطفاً مع أبرياء مقهورين بغضّ النظر عن جنسيّتهم وهويّتهم ودينهم وعِرقهم.
ونحن لا نقلّل إطلاقاً من حجم المشكلة التي أنتجها اللجوء السوريّ الكثيف، ولسنا عمياناً عن الأعباء التي يرتّبها على لبنان وعلى موارده المحدودة، أو المخاوف التي تحرّكها طبيعة العلاقات الحسّاسة بين طوائفه وجماعاته، حيث يحتلّ العدد والرقم موقعاً مركزيّاً. لكنّنا إذ نصرّ على حلول عقلانيّة هادئة، بعيدة عن الشيطنة شعبويّةً كانت أم عنصريّة، ندرك أيضاً أنّ استثنائيّة أوضاعنا هي من استثنائيّة التوحّش الذي ابتُلي به السوريّون، كما ابتُلي اللبنانيّون. وهذا فيما تدفعنا الأحداث المتلاحقة إلى الظنّ أنّ توطّد الطغيان وتمدّده هما أوّل الأسباب التي تقف وراء تمادي الحالة السيّئة كما يعانيها معاً اللبنانيّون والسوريّون في لبنان.
فالمأساة الراهنة إنّما تسبّبت بها أفعال النظام السوريّ الدمويّة، والدور الاحتلاليّ والتهجيريّ الذي أدّاه حزب لبنانيّ ممثَّل بقوّة في السلطة. لكنْ بدل أن تتوسّع حملة الإدانة لأفعال الطرفين المذكورين، نجد أنّ الحملة الراهنة، بسياسيّيها وإعلاميّيها وباقي مسامير آلتها، لا تكتفي بالتكتّم عن الأسد و”الحزب”، بل تكمّل أفعالهما.
فوق هذا، يغيّب أصحاب الحملة أنّ السوريّين في لبنان ليسوا طرفاً مسلّحاً، وأنّهم لا يرفعون قضيّة تتوسّل لبنان وتهدّد سيادة دولته أو تعرّض حدوده للخطر. لكنّهم يغيّبون أيضاً حقائق اقتصاديّة في معرض استعراضهم تلك الأرقام المضخّمة عن الآثار السلبيّة للسوريّين على الاقتصاد والعمالة اللبنانيّين. وممّا يتجاهلونه أنّ الوجود السوريّ هو ما يستجلب أموالاً ومساعدات دوليّة على اقتصادنا المنهوب، أموالاً ومساعداتٍ يُراد السطو عليها وإدراجها في دوّامة الفساد المعروفة. وهذا فضلاً عن أنّ الكثير من المهن التي تؤدّيها اليد العاملة السوريّة الرخيصة، في البناء والزراعة وسواهما، سبق أن شغلها سوريّون قبل الأزمة، وقد أثمرت يومذاك بعض أفضل النتائج على الاقتصاد اللبنانيّ.
ومن المقلق حقّاً أنّنا فيما نعيش أزمة اقتصاديّة وماليّة قاتلة، ويُبدي نظامنا برأسيه السياسيّ والماليّ عجزاً تامّاً عن معالجتها، بل فيما تتردّى أحوال بلدنا دولةً ومجتمعاً، وتتكشّف على نحو مؤلم العيوب البُنيويّة في تجربتنا الوطنيّة، كما تستبدّ المخاوف بالطوائف والجماعات والأفراد حيال السلاح المتفلّت والإفقار المتمادي…، في هذا الوقت بالذات يهرب مهندسو الحملة على السوريّين من مواجهة الأسباب الفعليّة والأعداء الفعليّين إلى أسباب وهميّة وأعداء وهميّين. ولئن انطوى هذا السلوك على صفات لا يُحمَد حاملوها، فإنّه لا يفعل سوى تكرار حالات كثيرة عرفتها بلدان أخرى هربت من مشكلاتها عبر البحث عن أكباش المحارق من ضعفاء ومستضعفين. وإذ يظهر بيننا من يُخيفنا بأرقام الولادات السوريّة ونِسبها المرتفعة، وبالمخاطر الديموغرافيّة التي ترتّبها تلك الأرقام، فهذا أيضاً ممّا سبق أن رأيناه في بلدان آثرت تحميل مآسيها إلى ضحايا أبرياء وُصفوا بأنّهم يهدّدون الوطن والوطنيّة.
فإذا ظنّ الهاربون من كوارثنا، ومن التصدّي لها، أنّهم بالطريقة هذه يعيدون الاعتبار للوطنيّة اللبنانيّة، فبئس وطنيّة متجبّرة كهذه، تضيف قسوتها إلى القسوة التي هجّرت السوريّين ثمّ أخضعتهم لشروط حياة مأسويّة لا تثير، لدى أصحاب المشاعر السويّة والحسّاسة، سوى الانكسار والحزن والتعاطف. وإذا ظنّ أصحاب الحملة إيّاهم أنّ سلوكهم يصالح لبنان مع “الحضارة” و”العالم المتحضّر”، فإنّ الردود الأوروبيّة والغربيّة تقول كم هم مخطئون، وكم أنّ نهجهم يكمّل النهج الرسميّ في عزلنا عن ذاك العالم.
لهذا كلّه فإنّنا، نحن الموقّعين والموقّعات أدناه، نعتبر أنّ المهمّة الكبرى المطروحة علينا جميعاً مدارها عودة النازحين إلى بلادهم شريطة أن تكون عودة طوعيّة وآمنة فعلاً، مضمونة من القوى الخارجيّة والدوليّة المؤثّرة ومنسّقة معها. وهذا كلّه يتطلّب الضغط على الدولة اللبنانيّة من أجل أن تبذل، ولو لمرّة واحدة، بعض الجهد والجدّيّة حيال قضيّة بالغة الحيويّة.
لكنّنا، في مطلق الحالات، ماضون في مواجهة هذه الحملة الجائرة التي لا تسيء فحسب إلى سوريّين أبرياء، بل تسيء إلينا كلبنانيّين إساءتها إلى وطنيّتنا اللبنانيّة التي نريدها إنسانيّة وديمقراطيّة وعصريّة. ومن موقعنا هذا نكرّر القول: ليس باسمنا ولا باسم وطنيّتنا اللبنانيّة.
______________
(*) أثار تعبير “نازحين” بعض اللغط لجهة أنّ تعبير “لاجئين” أدقّ في حالة السوريّين، وهذا صحيح مبدئيّاً. لكنّ ما أردنا توكيده باستخدام “نازحين” هو إضعاف حجّة الذين يربطون بين “اللجوء” و”التوطين” مستندين إلى ما يسمّونه “خطر التوطين الفلسطينيّ”.
الموقّعون (الأسماء حسب ورودها):
لينا المنذر- ضياء حيدر- يوسف بزّي- حازم صاغيّة- حسام عيتاني- محمّد أبي سمرا- حازم الأمين- ديانا مقلد- عليا ابراهيم- إيلي الحاج- هلا نصر الدين- نور سليمان- حسن عباس- مروان أبي سمرا- شذا شرف الدين- طارق أبي سمرا- بشّار حيدر- رشا الأطرش- مهنّد الحاج علي- دجى داوود- مروة صعب- خضر حسان- وليد حسين- فداء عيتاني- بيسان الشيخ- مكرم رباح- زياد ماجد- عزّة شرارة بيضون- ربيع مروّة- رشا الأمير- زياد عنتر- هنا جابر- ناتالي المير- بلال خبيز- جاد شحرور- عمر حرقوص- خلدون جابر- رنا نجار- محمد شبارو- ليال حداد- جنى بركات- وليد نويهض- سهيل سليمان- عليا كرامي- أحمد بيضون- لينا مجدلاني- فؤاد الخوري- أيمن مهنّا- لميا جريج- مريم سيف الدين- وليد فخرالدين- ديما صادق- صهيب جوهر- بلال ياسين- زهراء الديراني- ريحانة نجم-إيمان حميدان- علي نور الدين- عقل العويط- الياس خوري- بتول يزبك- سعود المولى- دلال البزري- إيلي القصيفي- مايا عمار- شربل خوري- ادمون رباط- غنوة يتيم- ريتا الجمال- نبيل مملوك- عزة الحاج حسن- بول طبر- كريستين طعمة- زينب شرف الدين- فاروق عيتاني- ميشلين أبو سلوم- محمد جزيني- هشام عليوان- جوني فخري- كارولين عاكوم- ميشال حاجي جورجيو- ريم الجندي- حسن مراد- عزة طويل- ريتا شهوان- ريتا باروتا- خالد العزي- جمانة حداد.
*المدن