تحدث الممثل السوري عباس النوري قبل أيام، عن أن حلمه في مهنته هو القيام بتمثيل شخصية مواطنه الشاعر أدونيس!
هذا أمرٌ لطيفٌ كمبدأ، إذ لا بد لكل ممثل من أن يطمح لإنجاز شيء استهواه، ومثل هذه الأمنيات، المرتبطة برغبة أصحابها بإظهار قدراتهم التمثيلية، لا تحيق بسير الشعراء والأدباء فقط، بل إنها تمر أيضاً على السياسيين والقادة، وحتى المجرمين والقتلة المتسلسلين.
وهي في الأصل تبدأ من أن التركيز على الشخصيات الدرامية المكرّسة، قد لا يروي عطش الممثل، فبعد أن يؤدي شخصيات تحتاج إلى طاقة هائلة كأوديب وهاملت وماكبث، لا بدّ له أن ينقب في حاضره عن شخصيات ذات بعد درامي، يتكفل شغله عليها بتكريسه كمبدع أضاف لمجاله شيئاً جديداً.
طموحات الممثلين السوريين لم تكن دائماً محدودة بشخصيات الحارة الدمشقية، ومنزوعة الدسم في تكرار الشخصيات المنمطة كالشبيحة وضباط الأمن، بل ثمّة محاولات للخروج عن هذا الأداء الرتيب، من مثل حلم الممثلة منى واصف في أن تؤدي شخصية “الأم شجاعة” في المسرحية التي تحمل ذات الاسم للعبقري بروتولت بريشت.
كما أن أفراداً من جيل واصف ذاتها قاموا كثيراً بأداء أدوار مهمة على خشبة المسرح، جاء أغلبها من الأدب المسرحي الكلاسيكي، إذ لطالما اعتبروا أن الخوض في الدرامي المعقد هو أفضل مدرسة لصقل الأداء والتفكير بالفن!
لكن، لماذا لا نشعر بالحماسة ونحن نسمع أو نقرأ تصريح عباس النوري؟!
هل لأن تجارب الدراما السورية مع تجسيد شخصيات الأدباء تبدو حتى الآن مخزية ولا تترك أثراً لدى المشاهد سوى لعنه لتلك اللحظة التي قرر فيها المشاهدة؟!
أليس هذا بصحيح مع تجربة مسلسل “نزار قباني” الذي يتناول سيرة الشاعر الراحل، وقد كتبه قمر الزمان علوش وأخرجه باسل الخطيب عام 2005، وكذلك تجربة مسلسل “في حضرة الغياب” عن الشاعر محمود درويش الذي كتب نصه حسن. م. يوسف، وأخرجه نجدت أنزور؟!
لقد توفرت من أجل نجاح العملين السابقين عوامل عديدة، كمحبة الناس المسبقة للشخصيتين، وكذلك تأثر الجمهور برحيلهما، وأيضاً رغبة المشاهدين بالتلصص على جوانب شخصية في حياتهما، ولاسيما تلك المتعلقة بالحب وبالنساء، بالإضافة إلى العنصر الأهم، والذي يجب التركيز في مثل هذه الحكايات، وهو أن حياتها مليئة بالدراما، وأن ثمة منعطفات كبيرة في السيرة الذاتية، تستحق أن يبذل الكاتب والمخرج والممثل من أجل صناعتها كل جهودهم، وأن تكون هذه المواقف حقيقية، غير مفبركة، وإلا فإن الجمهور سينفض عنها، وقد ينتهي الأمر بفضيحة قوامها شحذ التعاطف من الجمهور عبر النفخ في حكاية الشخصية المستهدفة! حدث مثل هذا الشيء في أعمال درامية شهيرة، وعبر سبيل التمثيل للفكرة نتذكر مسلسلاً تمت صناعته منذ فترة قريبة من قبل شركة نتفليكس حمل عنوان “فرويد”، وقع في هذا المطب، حين خلق حكايات خيالية بشخصيات حقيقية وتحت اسم شخصية علمية مكرسة.
فإذا عدنا إلى عباس النوري وأمنيته، ومن خلال القياس على ما سبق، ماذا سنرى؟ أولى الأفكار التي سيتمحور حولها طرح الأسئلة هي درامية الشخصية، إذ لا يكفي أن يسمي الشاعر نفسه باسم شخصية ميثيولوجية ليحمل بذاته سيرتها ومصيرها!
هذه أبسط الحقائق المعروفة، ولهذا يجب أن ينقب كاتب المسلسل الذي سيتلقى إشارة النوري ويهرع للكتابة في سيرة حياة السوري علي أحمد سعيد إسبر، ليعرف هل تكفي العناصر الدرامية المتوفرة فيها لصناعة حكاية تستحق النقل عبر الكاميرات إلى الشاشات؟
نعم في سيرة أدونيس السوري تفاصيل مفصلية للحديث عن السوريين أنفسهم، كهبوطه وهو طفل من قريته قصابين في الجبل ليلقي قصيدة في مدح شكري القوتلي، الذي منحه فرصة للدراسة على حساب الدولة السورية، وهناك أيضاً تجربته في السجن عندما دخله تحت علم الحزب السوري القومي الاجتماعي، هذا على المستوى الاجتماعي والسياسي، وهناك القضية الدرامية الأهم ألا وهي الكتابة الشعرية ذاتها التي خاض فيها!
ولكن، مهلاً، هل يمكن أن نصنع حكاية عن الرجل فقط بمثل هذه العناصر؟
شهدتُ أدونيس الشاعر مرة أثناء أمسية شعرية في قصر العظم وهو يقرأ بين التهدج والبكاء الخفيف المقطع الافتتاحي لقصيدته “الصقر”، وخاصة ذلك الجزء المترع بالعاطفة حين يقول:
“لو أنّني أعرفُ كالشّاعر أن أغيّرَ الفصولْ
لَو أنّني أعرف أن أكلّمَ الأشياءْ،
سحرتُ قبرَ الفارسِ الطّفل على الفراتْ
قبر أخي في شاطىء الفرات
(ماتَ بلا غسْلٍ ولا قَبْرٍ ولا صَلاهْ)
وقلتُ للأشياء والفُصولْ
مُدّي ليَ الفُراتْ
خَلَّيهِ ماءً دافقًا أخضَرَ كالزَّيتونْ
في دَميَ العاشقِ في تاريخيَ المسْنونْ”.
ولاحظت أن الرجل قرأ هذا الجزء في غير مكان، وقد فعل الأمر ذاته!
وفعلياً مثل أي قارئ مواظب تأخذه العواطف، أستطيع ان أحفظ درامية الحكاية المبثوثة في النص، وأن أرويها بطريقتي الخاصة التي لن تخفي تأثري بما هو مكتوب فيها، وقد لاحظ أصدقاء أنني قرأت ذات يوم قصيدة لأدونيس تحمل اسم “قداس بلا قصد، خليط احتمالات” بطريقة عاطفية، أستطيع أن أرجعها إلى الشدو الشعري عن مكان كدمشق مليء بالتراجيديا التاريخية المتصلة بالواقع الحالي، وفي مثل هذا تتطابق المشاعر الذاتية حيال النص مع ما يماثلها تجاه الموضوع، وإذا كان ثمة بطولة في هذا الخلق، فهي محاولة الشاعر الارتقاء بنبضه اللغوي إلى لحظة فجائعية واقعية حدثت في غضون الماضي الذي لا ينهض شعر عربي دون العودة إليه.
هذه هي الدرامية القابلة لاعادة الإنتاج في حياة الشاعر، وهي لا تخصه، بقدر ما تخص قومه كلهم، لكن تفاصيل حياته ستأخذ منعطفات إشكالية أكثر مع مواقفه المعلنة تجاه الثورة، وتجاه رجالات النظام، الأمر الذي بدأت مقالات تشير له في الأونة الأخيرة، وضمن هذه المنعرجات يمكن صناعة ما يشبه الفيلم عن صعود الشاعر عبر حوامل اللغة والأفكار، ثم سقوطه في جغرافية الواقع الوعرة، وشراك شياطين يبيع اسمه لها، وفي المحصلة لا أحد سيعرف أي قصة ورط عباس النوري نفسه فيها.
*المدن