ستعيد مدينة ستراسبورغ الفرنسية، هذه الأيام، جزءاً من ذاكرتها القريبة من خلال معرضين، تستضيف أولهما المكتبة الوطنية لجامعة المدينة بعنوان “في مواجهة النازية.. الحالة الألزاسية”، بينما يستضيف قصر الروهان ثانيهما الذي ينظمه متحف المدينة، لمجموعة من اللوحات الفنية المستعادة بعدما سرقها النازيون.
وعلى هامش هذين المعرضين، نُظمت رحلات لزيارة أبنية أنشئت في مرحلة السيطرة الألمانية على إقليم الألزاس، الذي كان، لقرون عديدة، مسرحاً لصراع قومي ألماني فرنسي بهدف ضمه، وانتهى في العام 1944 حينما استعاده الجيش الفرنسي، وتحول بعد عقود إلى أنموذج لفكرة أوروبا الموحدة، خصوصاً أن حاضرته الكبرى ستراسبورغ صارت عاصمة للاتحاد الأوروبي، وتستضيف عدداً من مؤسساته السياسية كالبرلمان الأوروبي، والقانونية كالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. عودة المدينة إلى استعادة المقطع التاريخي الخاص بحضور النازيين فيها، تأتي بعدما قدمت لجنة بحث تاريخية مستقلة تشكلت العام 2016 تقريراً مؤلفاً من 500 صفحة، لرئيس الجامعة، يبحث في علاقة هذه المؤسسة مع حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني 1941-1944، حين شهدت كلية الطب فيها تجارب إجرامية تم تطبيقها على البشر.
هذا الرجوع إلى الماضي يطرح أسئلة مختلفة وغير مسبوقة، تبدأ بالشعار الذي وضعته المكتبة الوطنية لمعرضها، إذ ذهب هذا المنحى، للمرة الأولى، إلى دراسة واضحة وعلنية، للوقائع، والأفعال التي ارتكبت في الإقليم على أيدي الهتلريين ومنتسبيهم المحليين، وكذلك استثمار مرافق المدينة لتكون أداة في جرائم الإبادة طيلة الحرب العالمية الثانية، ومنها الجامعة التي جرت تسميتها في ذلك العهد بجامعة الرايخ. الأمر الذي عبرت عنه صحيفة (rue 89) الإلكترونية واسعة الانتشار من خلال مانشيت وضعه محررها لتغطية مناسبة المعرض يقول: “الألزاس تهتم أخيراً بماضيها النازي”!
الحديث عما جرى في المنطقة خلال الحرب، لا يعني بأي شكل من الأشكال تجاهل الحاضر، حيث لا تخفى على أي متابع تفاصيل راهنة، يمكن من خلالها رؤية أصابع الماضي وهي تمتد، عبر حضور آثم للنازيين الجدد، الذين يطلون برؤوسهم بين حين وآخر، من خلال أفعالهم البغيضة المكروهة من قبل الجمهور الألزاسي نفسه.
هنا، يمكن فهم محاولة إحراق جامع ستراسبورغ الكبير لمرتين، في العامين 2014 و2020، والتي التقطت كاميرات المراقبة صوراً لفاعليها الملثمين، ضمن سياق سياسة معاداة المهاجرين، التي تقودها قوى سياسية تعلن عن نفسها بشكل صريح وواضح. كما أن تاريخ الاعتداء على المقابر اليهودية، يتراكب مع الاعتداء على مقبرة تضم رفات الجنود المسلمين الذين ساهموا في تحرير فرنسا من الاحتلال، ويفضي إلى السؤال عن حضور النازية بوصفها عقيدة في الرؤوس، حيث يُظهر سِجل هذه الأفعال الذي يمكن رصده في العقدين السابقين أن التعلق بالماضي القومي من خلال واجهته النازية ما زال حاضراً لدى البعض، لكنه يبقى محدوداً وقابلاً للسيطرة في حال تمت مواجهته.
كما أن المراجعة التي قامت بها المؤسسة العسكرية الألمانية، وشريكتها الفرنسية، لتبين مدى حضور الأفكار المتطرفة لدى عناصرها، قد تساعد في إحكام القَيد على إعادة انتشار الداء النازي القاتل، لا سيما بعد حادثة العثور على شعارات ورموز الحركة في معسكر ألماني فرنسي، يقع في منطقة إلكيرش في محيط ستراسبورغ!
إذن، ثمة سؤال واقعي ذو جانب فكري وثقافي وسياسي، كان من الضروري أن يُطرح، حيال هذا الماضي في الإقليم وعاصمته، تم تأجيله كثيراً، وربما ساعد هذا في تدعيم اعتقاد البعض بوجود خوف منه، لكن التعاطي مع القضية بهذا الوضوح يبدو محاولة لنقض هذا الظن، لا سيما أن معالجة الأمر تبدأ من الزاوية الحقوقية والسياسية ومراجعة الجرائم التي قام بها البعض في الإقليم، ومنهم الطبيب أوغست هرت الذي قاد في جامعة الرايخ دراسات وتجارب لدراسة طبيعة أجساد المنتمين للدين اليهودي. حيث بيّن تقرير اللجنة حقيقة وقوع سلسلة من الجرائم، على يد هذا الطبيب، كما جرى النظر في ما شهده معسكر ستروتهوف الذي خصصه النازيون في الإقليم لاحتجاز ضحاياهم.
وللبحث أيضاً جوانب ثقافية، ومنها إظهار طبيعة أفعال النازيين الذين قاموا بنهب الأعمال الفنية والتحف، وهذا ما يقدمه المعرض في متحف روهان، حيث يتم عرض 27 عملاً فنياً مستردة من منهوباتهم، على يد مؤسسة استعادة منهوبات المتاحف الوطنية (MNR).
الكشف عن تفاصيل ما حصل، لم يكن أمراً هيناً، إذ إن عقباته تتأتى من مقدار الآلام التي تختزنها، بالنسبة للسكان المحليين، الذين قاوموا السيطرة الألمانية، فدفعوا أثماناً كبيرة مقابل ذلك، وكذلك سياسة الإبادة ضد الطائفة اليهودية، إذ نسف النازيون معبدها القديم على ضفة قناة نهر إيل الذي يخترق المدينة.
غير أن الخطوة التي تبدأ صغيرة، تضمن أن يكون الكشف عما جرى، جزءاً من عملية التحرر من الماضي، بهدف الانطلاق صوب المستقبل. ووفقاً لهذا، اعتمدت الجامعة شعاراً لفترة وجيزة، استعارته من شقيقتها جامعة فرايبورغ الألمانية، يقول: “الحرية تجعلنا أحراراً”!
*المدن