حزنتُ لرحيل الصديق الشاعر بندر عبد الحميد، ولم أشأ أن أعكر لحظات تأمل الموت ورهبته بالنظر إلى أو الدخول في نقاش أو جدال مع أحد حيال سيرة الرجل، ووقائع حياته في السنوات الأخيرة في دمشق!
وسرعان ما باغتنا الموت مرة أخرى قبل أيام برحيل صديق آخر هو المخرج السينمائي ريمون بطرس، شاء القدر أيضاً أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في الداخل السوري، حيث لا شيء يحدث سوى قهر الرجال والأذيات النفسية المكربة وجروحهم الداخلية التي لا يراها أحد، فتقتل أصحابها ببطء وقسوة وبرودة مفزعة!
على هامش مآسينا السورية اليومية المتكررة منذ تسع سنوات، حيث حكمتنا متواليات القتل والتغييب في المعتقلات والنزوح والتهجير، يبدو للكثيرين ممن تركزت محارقهم الذهنية على الأحداث المؤلمة في أيام السوريين أن موت مبدع هنا أو مبدعة هناك أمر غير مهم، بالقياس مع ما جرى ويجري مع عموم الناس في المقتلة السورية!
إذ ماذا يشكل موت شخص سوري في فراشه بين أهله ومحبيه أمام أنواع الموت الأخرى التي جربها السوريون؟
وماذا على الآخرين أن يفعلوا إزاء شاعر أو كاتب أو مخرج بقي في الداخل، دون أن يعلن موقفه الصريح والواضح من إجرام الأسد وزمرته، ثم مات؟!
يكتب أحد ما على صفحته في (فيس بوك) مستغرباً من الاهتمام بموت بندر عبد الحميد! ويستنكر آخر أيضاً أن يعبر أصدقاء ريمون بطرس عن حزنهم برحيله!
ثم سرعان ما يتحول الأمر إلى مساجلات طويلة أخرى ينقسم السوريون بسببها ويتخاصمون!
التوقف عند هذين الاسمين لا يعود فقط لخصوصيتهما التي أشرنا لها أعلاه؛ حيث رحلا في الداخل، بل يمكن اعتبارهما مثالين قريبين لذاكرة الجمهور، فبندر الذي مضى على رحيله أقل من شهر وكذلك ريمون الذي مضى قبل أيام، هما مثالان غير مسبوقين لاتفاق المتابعين وإجماعهم على تكريس ذكرهما الطيب!
كما أنهما أبناء جيل واحد، هو جيل السبعينيات الذي صرنا نفقد أفراده يوماً بعد يوم، دون أن يشتغل أحد على تدوين تاريخه، بسبب الإهمال والريبة، وبسبب عدم وجود تقاليد احتفاء حقيقية وراسخة في الوسط الثقافي السوري، الذي ظل حتى الآن رهين تسلط مؤسسات النظام وأجهزته الأمنية ومخبريها.
من هذه العتبة يمكن فعلياً رؤية أن الوضع برمته يَظهرُ لمن يراقبه
من خارجه شبيهاً بحلبة مصارعة كبرى مفتوحة دون أسوار، يتماسك فيها المتحاربون مع الهواء والأخيلة والأشباح! وبينما يُهزم أولئك وينتصر هؤلاء، يتم تعليق سير الموتى على أعمدة في العراء لتنهشها الطيور وليلوكها العابرون!
غير أن النظر للتفاصيل من داخلها يجعلنا نرى أن ثمة رغبة عارمة لدى عموم السوريين ممن تعرضوا للأذى على يد نظام أجرم بحقهم طيلة نصف قرن بتدمير كل الإرث الذي ظهر في عهده! وتحتد هذه الرغبة بعنف أكبر حينما يتم قياس أهمية الشخص وأي أمر آخر عبر معيار الموقف من الثورة! فحينما لا يُعثر على موقف علني وصريح بتأييدها فإن الويل كل الويل يقع لا على الراحل فحسب بل حتى على المترحمين عليه!
لا نتحدث هنا عن أشخاص مؤيدين لنظام الأسد، بل عن أشخاص وجدوا أنفسهم في ظروف تمنعهم من الانخراط بالحدث، وآخرين لم يجدوا هذه الثورة تعبر عنهم، فلم يؤيدوها ولم يهاجموها، وأيضاً نتحدث عمن اختلفوا معها فكرياً وعملياً أو وجدوا أنفسهم بعيدين عن سياقاتها وتحولاتها فاختلفوا مع تمظهراتها!
هؤلاء جميعاً ورغم كل ما يجعلنا مختلفين معهم حيال الثورة ومؤدياتها، كانوا وما برحوا سوريين في الصميم! لا تجد في سيرهم الشخصية ما يشوبها خلا ما تجده في حيوات كل السوريين، الذين عاشوا كل هذه العقود في بيئة أغلقها النظام على نفسها، فتعفن الهواء فيها وصارت كريهة ومقيتة ومدمرة، وهذه البيئة كانت ومازالت واحدة من أسباب قيام الثورة ذاتها!
لقد كان هؤلاء وغيرهم جزءاً من مشهد كبير، يجتمع فيه أحسن الناس مع أضرّهم، وكان من الضرورة له أن يتخلخل لكي يفصح عن دواخل النفوس بوضوح، فذهبت الثورة بالأقنعة، وكشفت مجرياتها أن صمت البعض في الداخل لا يعني تأييدهم للقتلة، كما أظهرت أن الجعجعة والصراخ بصوت عالٍ لم يكن تصريحاً وصكاً للنقاء الثوري في الخارج!
هؤلاء ونحن ومعنا أجيال كاملة، سبقتنا وتلتنا، بحسناتنا وسيئاتنا، بإنجازاتنا وهزائمنا، بحروبنا التافهة والوازنة، الصغيرة والكبيرة، بين بعضنا، وكذلك تحالفاتنا وخياناتنا!
كلنا سوية، جزء من خامة ذاكرة سورية لا يجب أن تباد، ولا يجب أن تحرق، بل يجب الاحتفاظ بها وتوثيقها، ومساءلتها فكرياً وثقافياً، دون تجريم، طالما أنها لم تقترف إثم تعظيم الديكتاتورية وتأييدها، والاحتفال بإجرامها، والتدليس حولها أمام الجمهور!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا