قبل عامين ونيف من اليوم، تفجرت فضيحة سرقة أدبية في الأوساط المصرية، أثارت حنقاً شديداً بين الكتّاب والمثقفين، وذلك حين اكتُشف قيامُ أحد أعضاء اتحاد الكتّاب، وهو الشاعر مصطفى أبو زيد، بسرقة قصيدة الشاعر الراحل نزار قباني المعنونة “اختاري” المنشورة في ديوانه “قصائد متوحشة” فنسَبَها لنفسه وضمّها لديوانه “حروف من حب”!
الواقعة طرحت أسئلة عن قدرة السارق على ممارسة فعله بكل وقاحة وتحت الأضواء، رغم أن المسروق هو شاعر مشهور، يعرف الجمهور العربي جلّ قصائده، ما يصعّب القدرة على النجاة والإفلات من عيون القرّاء المدققين. كما دار النقاش المحلّي حول الطريقة التي يتسرّب بها أشخاص ينتحلون إبداع الآخرين إلى اتحادات الكتّاب العربية، فيُمنحون الرخصة المعنوية لتمرير لصوصيتهم أمام الجميع بلا محاسبة! ردّ فعل اتحاد الكتّاب المصري كان سريعاً، إذ فُصل الشاعر المذكور وتقاطر المسؤولون لنفي وجود أي قصيدة مسروقة ضمن المؤلفات التي قدّمها من أجل الحصول على بطاقة العضوية!
الحادثة التي اكتُشفت في القاهرة، تصلح لأن تكون نموذجاً عاماً عن نمط السرقات الأدبية الفاقعة، لكنها لا تكفي لتوضيح الآليات التي يعتمدها السارقون للسطو على النتاج الإبداعي لواحد من أهم شعراء العربية في القرن العشرين، لا سيما أن تجربة نزار قباني الممتدة زمنياً، والمتراكمة إبداعياً، حوّلته من مجرد شاعر إلى حالة جماهيرية ذات حضور آسِر. فصار اسم نزار أشبه بأيقونة تمتلك سلطتها الخاصة، يتورط كثر في الانجذاب والرضوخ لها، ليصبحوا أسرى كلماتها وحروفها، وحين يكتبون تصبح كتاباتهم صدى لها.
ماء الوجه
وإذا كان البعض يكتشف ما يحصل معه ومع نصه، فيحاول الخروج من دائرة تقليد نزار والبحث عن صوته الخاص، فإن البعض الآخر يستمرئ الأمر ويعيد ويكرر، مدّعياً أنه استمرار للتجربة، وأن من حقّه الإنشاء في الحيز التعبيري ذاته، طالما أنه لا ينقل المحتوى النزاري بشكل حرفي. ولهذا، ومن أجل الحفاظ على ماء الوجه، ذهب المتخصصون نحو دارسة “التناص” الحاصل بين نصوص الكتّاب، لكن هذا لم يمنع آخرين من تحويل المُفردة العلمية إلى أخرى تعبّر عن جوهر الفعل المدرك وهي “التلاص”!
نزار قباني كان دائماً الضحية النموذجية لمثل هذا. نزار ومحمود درويش، الشاعران العربيان العظيمان الأكثر عرضة للسطو على أسلوبهما الشعري، حتى صارا بتعابيرهما المبتكرة أشبه بفلتر لكشف المراتب المتدنية من التجارب الشعرية. فإذا ما التقط القارئ أو المستمع نبرتهما في نصوص أي شخص، فإن هذا يكفي لأن يهملها، ويودع صاحبها في عنبر النمطيين آخر شارع الشعر!
(سرقة واختيار)
تَحوُّلُ الشاعر إلى حالة جماهيرية، يجعله ضحية لمن يتجرأون ليس على تقليده فحسب، وليس فقط على سرقته بشكل فاقع وصريح كما هو الحال في الحادثة المصرية، بل على السطو على الاسم ومعناه وحضوره. وإذا كان الشاعر يمتلك موقفاً سياسياً مغايراً للنظام السياسي الحاكم في بلده، فإن توجه المؤسسات الثقافية الرسمية التابعة له، نحو استهلاك اسم الشاعر، وضمّه إلى حظائرها غصباً عنه بعد رحيله، لا يخفي الطابع الأمني لهذه الأفعال، والقصدية التي تهدف إلى تفريغ الحضور من دلالاته وجعله مطية للتوجه السياسي الذي لطالما قام الشاعر بانتقاده.
فلننسَ قليلاً قصة بيت عائلة قباني في الشام القديمة، والذي صار مركزاً للترويج للإيرانيين، ولنتوقف عند هذه الأفعال، التي يُظهر الإطار الحقوقي أنها ليست إلا جزءاً من عائلة فعل السرقة. ومثال هذا ما فعله المكتب التنفيذي لقطاع الثقافة والسياحة والآثار في محافظة دمشق ومديرية ثقافة دمشق التابعة لوزارة الثقافة، عندما أعلنا في العام 2016، جائزة نزار قباني الشعرية للشعراء الشباب للمجموعات الشعرية المخطوطة وغير المنشورة سابقاً، من دون الحصول على إذن من عائلته يسمح لهما باستخدام اسمه في هذا النشاط أو غيره، والذي يمكن وضعه ضمن سياق البروباغندا الترويجية للنظام في ذروة الصراع بينه وبين الثائرين عليه.
طبعاً سيذكر القراء ذلك الجدل الذي ترافق مع ظهور مسلسل “نزار” في العام 2005، والذي كتبه قمر الزمان علوش وأخرجه باسل الخطيب، وتمحور حول طريقة مقاربة الشخصية، وطرح السؤال حول ما يحق للمبدعين وما لا يحق لهم في سياق إنتاج أعمال السيرة الذاتية، ومحاولة البعض ومن أجل تسويق عمله تعقيم حياة الشخصية مما هو مؤذٍ، لاسيما المواقف السياسية التي أعلنتها الشخصية!
اسم الشاعر
غير أن ما جرى في ذلك الوقت من نقاش حول المسلسل لم يكن مبنياً على الاستقطاب الشديد كما هو حاصل الآن في سوريا.
فهنا، وبالإضافة إلى محاولة تدجين الاسم ليكون مادة مستخدمة في إبراز الهيمنة السلطوية على كل تفاصيل البلد، ثمة شعور بالتملّك، والقدرة على الحصول على أي شيء وفي أي وقت، من دون النظر إلى الحقوق الشخصية، ولا مراعاة مالكيها، والفعاليات التي تتابع شؤونها. فحينما يقرر رجل السلطة أنه يحتاج لهذا الشيء، سيقوم بتملّكه فوراً بإسم السلطة ذاتها، وسيقوم من خلال أدوات ومؤسسات الدولة بوضع يده عليه، بحجة الانتفاع العام.
إنه يؤمّمه، من أجل أن “يخدم” عموم الناس، لكنه فعلياً يستولي عليه من دون وجه حق. وإذا كان الموضوع في حالتنا هذه هو اسم الشاعر، فإن تأميم الإسم يعني، من ضمن معانيه وبشكل أو بآخر، إفراغه من أيقونيته، وتمكين أي أحد من استغلاله بالطريقة التي يراها مفيدة لمصالحه، فيقوم أحد باعة الكتب بتسمية مكتبته باسم الشاعر دون الحصول على إذن عائلته، وعلى المنوال ذاته يصبح في إمكان شركة ألبان أن تسمي أحد منتجاتها بإسم الشاعر المؤمَّم!
اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، كان آخر المشاركين في حفلة استباحة نزار قباني، وذلك عبر قيامه بلطش أحد كتبه المحمية قانونياً لصالح دار نوفل هاشيت باعتبارها مالكة لحقوق منشورات نزار قباني، وإعادة إصداره ضمن سلسلة كتاب الشهر التي توزع مع أعداد مجلة “الموقف الأدبي”، وإتاحته إلكترونياً في موقعه! وهو كتاب “ما هو الشعر” النثري، والذي طُبع للمرة الأولى العام 1981 في دار “منشورات نزار قباني”، ثم أعيد نشره في المجلد الثامن من سلسلة أعمال نزار قباني الكاملة، التي تباع حالياً في الأسواق.
في شبكة الإنترنت، هناك قرصنات متكررة لأعمال نزار، لكنها في غالبيتها تستنسخ الكتاب كما هو وتعيد نشره، أي أنها تُبقي على مفرداته العملية كما هي، عبر تصويره، وهذه الأعمال تلاحقها دور النشر صاحبة الحقوق فتبلغ عن السرقات التي سرعان ما تختفي في هذا الموقع، لتعود وتظهر في موقع آخر، في ظل الفوضى العامة التي تعانيها عوالم الإنترنت باللغة العربية. لكن ما فعله اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، كان فعلاً مختلفاً، فتحت غطاء كونه مؤسسة رسمية، وجد القائمون عليه أن بإمكانهم الاستيلاء على أحد مؤلفات شاعر سوري، وإعادة نشره، بعدما قام كاتب من أعضاء الاتحاد، اسمه سهيل شعار، بوضع مقدمة هزيلة له، لا تنقص ولا تزيد من قيمته!
هل حصل الاتحاد على إذن أو سماح من نوع ما لإعادة إصدار الكتاب من أصحاب الحقوق؟ “المدن” سألت هدى مرمر، المسؤولة الإعلامية في دار هاشيت نوفل عن ذلك، لكنها نفت نفياً قاطعاً حدوث ذلك، مُطالبة بتبيان التفاصيل، ما يعني في المحصلة وجود واقعة سرقة مكتملة الأركان، لم يكن فيها السارق شخصاً مفرداً بل مؤسسة تمتلك سلطة وسيطرة شبه مطلقة على عالم التأليف والنشر في سوريا. إذ منح النظام الأسدي، الاتحاد، سلطة إعطاء الموافقة على أو منع إصدار أي كتاب يُقدَّم لدور النشر في سوريا، ومن دون أن تُمهر المخطوطةُ بختم الموافقة سيُعتبر الكتاب غير قانوني، يُعاقَب الناشر على إصداره!
ربما تكون محض مصادفة أن الراحل نزار قباني تحدث في هذا الكتاب بالذات عن بعض رؤيته لفكرة تعميم الشعر، فقال: “إن الاشتراكية الشعرية هي أساسُ تفكيري و(تأميم الشعر) هو منهج سأطبقه في أول فرصة استلم بها السلطة. سيكون أول عمل أفعله، هو أن أؤسس تعاونية شعرية في كل حي، يحصل فيها الناس على ديوان الشعر، كما يحصلون على زجاجة حليب. إنني ضد الاحتكارية في الشعر، سواء احتكارية الملوك والخلفاء.. أو احتكارية الصالونات.. أو احتكارية السلطة.. أو احتكارية (الإنتلجنسيا)”.
لكنه في الوقت ذاته تحدث ضمن إجابته عن سؤال وجهه سائل له يقول: “يهاجمونك أيضاً لأنك تبيع عشرات الألوف من أعمالك الشعرية.. ويقولون إنك أصبحت ثرياً من وراء الشعر؟”، فأجاب بشكل واضح عن ضرورة أن يتملك الشاعر مقومات عيشه من خلال نتاجه فقال: “هذه قلة أدب مني.. فلا تؤاخذوني.. ففي هذا الوطن ممنوع على الشاعر أن يشتري حذاء جديداً.. أو أن يلبس قميصاً نظيفاً.. إذا باع الكاتب الناجح في الولايات المتحدة، أو في فرنسا، أو إنكلترا، عشرين مليون نسخة، دقوا له طبول الفرح، وأقاموا أقواس النصر.. أما إذا تجرأ شاعر عربي على بيع خمسة آلاف نسخة من كتابه.. أعلنوا الحداد العام..”! وربما لو عاش نزار إلى أيامنا هذه لأضاف إلى إجابته: ويؤمّمونه ويفرغونه من حقوقه وشخصيته، ليتجرأ عليه في وطنه من كل هبّ ودبّ!
*المدن