علي سفر: سوريا 2020… في كوارثها هي العالم

0

رغم أن القضية السورية كانت تتراجع، ولسنوات خلت، عن الواجهة في سياق الأحداث، إلا أن تحولها إلى قضية شبه ثانوية بات مبرماً، مع غرق الكوكب كله في أزمة وباء كورونا. هنا، لا يمكن تجاهل مشاعر السوريين، وهم يرون دول العالم الذي أهمل قضيتهم، وتجاهل وجود نظام قاتل يفتك بهم، تعاني أزمة خانقة كهذه. ففكرة العدالة التي طمح لها السوريون، وثار حولها الجدل قبل أيام هل هي انتقالية أم تصالحية، باتت أعمق من مجرد جُملة مسطّرة في نص قانوني. إنها شعور المنكوبين والضحايا بالتساوي مع الآخرين، في اعتبارهم أصحاب حق، وتساوي العقاب الذي يفترض أن يقع على المجرمين والقتلة. لهذا كان المرء يلمح المشاعر المختلطة بين الفجائعية والشماتة، وتعميم الأذى.

فالوباء وجد أشباهه، في الأسد ونظامه، وكل من يقومون بأفعال مثل أفعاله، كما أن سوريا وبشكل فعلي، بمآسيها وتناقضاتها، وحضور الجميع في صراعاتها، باتت كناية عن العالم كله، في استعادة غريبة لعنوان رواية هاني الراهب “بلد واحد هو العالم”!

وبأي حال من الأحوال، لا يمكن التعامل مع نهاية العام 2020 في الحالة السورية بشكل إفرادي، كما كان يتم ذلك، في الرصد الذي يجري عادة في مثل هذه الأوقات على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية. نهاية 2020 تعني بالنسبة للسوريين نهاية العقد الأول من مأساة كبرى لم يشهدوا مثلها، لا هم ولا آباؤهم ولا حتى أجدادهم. والمفارقة أن الأقلام، قبل سنتين أو ثلاث، كانت تمضي لتقارن بين المشهد السوري آنذاك وبين سنوات الحرب الكبرى بين العامين 1914 و1918، وذلك لجهة كارثة الجوع تحت حصار النظام، وقتامة الحرب بما تضمنته من كوارث على المستوى الإنساني. وبالتأكيد كلُ مقارنة تحتوي في ثناياها سعياً من صاحبها لافتراض وقوع نهاية الحدث الراهن، كما انتهى الحدث المقارن به، الذي جرى في الماضي، لكن ذلك الإحساس المأمول به لم يحدث، وبات على المرء أن يُجر بحبال الوقت الذي يكبله، إلى تداعي الوقائع التي لم تنته، ولا يبدو أنها ستنتهي ضمن الأفق المنظور!

فسوريا الراهنة وفي العام 2020 باتت عنواناً لأبشع حياة يمكن أن يعيشها قومٌ على وجه البسيطة، ففي فصل الانقسام؛ لم يحدث أن انشطر شعب كان يعيش لعقود في إطار يجمعه مثلما انقسم السوريون، في نواحي الصراعات القائمة، التي باتت طبقاتٍ متراكمة. تبدأ بالانقسام بين تأييد نظام الاستبداد وبين معارضته، وتمر بالانقسامات الطائفية التي تندرج ضمن تفاصيل الصراع، وتلك التعارضات القومية، وأيضاً الطبقية التي باتت أوضح من أن يتم تجاهلها، مع تسيد طبقة أمراء الحرب في المشهدين المتقابلين أي مشهد النظام ومشهد المعارضة! أيضاً، لا يمكن تجاهل الانقسام بين السوريين الذين انتهى بهم الحال ليعيشوا خارج مناطق سيطرة النظام، وصولاً إلى المنافي، وبين أولئك الذين يعيشون في الداخل!

وبالضرورة، فقد أفضت سلسلة المآسي غير المنتهية إلى انقسام ثقافي واضح، عابر للمتاريس والتخندقات، بين فئتين من السوريين:

الأولى، وهي التي مازالت مصابة بمرض الإنكار، لم تر في ما حدث خلال العقد الماضي سوى الأفكار الأولى التي خلفتها صدمة الثورة/المؤامرة، وفي ميكانيزمات تفكير هذه الفئة، يقوم الصراع في سوريا بين مجموعتين تتميزان بكونهما كتلتين من صَمَم، مجبولتين بالإسمنت، لا تحتويان تفاصيل تجعل أفراد هذه الفئة يتوقفون عندها، فمن ثاروا ضد الأسد هم إرهابيون وبيئاتهم حاضنة للإرهاب، وسكان المخيمات هم جزء من هؤلاء!  كما أن السوريين المنفيين هم جزء من هذا المجموع، وكل نتاج مثقفيهم هو تكرار لأغنية الشيطان ذاتها، وكل سياقات النشر والنشاط الإبداعي إنما يتم صنعه بتمويل أطراف المؤامرة أنفسهم. وفي الجهة، ثمة سوريون معارضون، يميلون وبشكل صريح في تفكيرهم وكتاباتهم، إلى اعتبار أن من بقي في مناطق سيطرة النظام هم شياطين خرس، سكتوا عن الحق، وبالتالي بات عليهم أن يدفعوا ثمن مواقفهم، من دون أن يستحقوا التعاطف من قبل الآخرين، لا بل أن تتم إدانة أي ملمح من ملامح التعاطف معهم!

أما الفئة الثانية، فهي ذات صوت منخفض، حاولت وما انفكت تحاول، خلال العقد الماضي، أن تبحث في التفاصيل، من دون أن يجرها الصراع والدم إلى الانغماس في التخندق، الذي يصل إلى حد إلغاء الآخر، وإنكار وجوده. ولعل المشكلة التي اختصت بها هذه الفئة العابرة أيضاً للجماعات والمتاريس، أنها لم تستطع أن تكرس لأفرادها منصات حوارية، تجعلهم يختبرون الأفكار، التي يمكن لها أن توحدهم كتيار، يمتلك قدرة على العمل، في سبيل إنهاء التأزم الحاصل نتيجة الحدث.

وبينما كان أفراد الفئة الأولى يتحاورون اشتباكاً في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كان مثقفو الفئة الثانية يتغربون أكثر فأكثر في مواقفهم، فيغيب الحوار والتقبل بين جبهتي الداخل والخارج، وسط ابتلاء هذه الفئة بمجموعات وضعت نفسها في عتبات فجة، تلبس لبوس الراديكالية، ولكنها فعلياً تتصرف كنهج عدمي، يدين الجميع، ولا يعلن عما يناسبه من حلول

ضمن هذا المشهد كان صوت الفئة الثالثة، التي يمكن لها أن تقارب بين مواقف السوريين، الذي يتفقون على رفض الاستبداد، بوصفه أساس المشكلة، ويرفضون أيضاً إعادة إنتاجه في مقلب المعارضة، وتفريخه لأشكال محلية دينية وطائفية، وقومجية، وقبلية، يغيب ويضمحل، حتى ليبدو وكأن سوريا كلها لم تعد سوى فئتين متصارعتين، وبما يوجب انقسامها بين سوريتين وعلى إيقاع هذا الاستنتاج، كان هدوء الجبهات العسكرية، غير المعتاد، يؤشر إلى أن هناك معملاً يصيغ شكل الانقسام الراهن السوري، بين سوريا النظام، وسوريا جبهة تحرير الشام، وسوريا قسد، وبما يتناسب مع رؤية النظام، الصانع الأكبر لمشاكله، والمستفيد الأهم من تشظيه وتبعثره، والقوى الداعمة له كروسيا وإيران، ويتوافق مع الاسترخاء التعميمي الذي تشتغل وفقه القوى الإقليمية والدولية!

ترجمة ما سبق على مستوى الإنتاج الثقافي ممكنة، لا سيما مع استمرار عمل مؤسسات النظام الثقافية، في تكرار رؤيته للثورة ولحربه ضدها، وإنكار وجود الآخر الذي يرفض جوهر الاستبداد وكينونته، وتصديرها لأعمال بين السينما والمسرح، وبعض منشورات وزارة الثقافة، تعاني من الضحالة في رؤيتها للحدث، والانسجام الكامل بينها وبين لغة الحرب، وقعقعة السلاح، وصورة البسطار العسكري.

وفي المقابل ظهرت أعمال سردية وشعرية كثيرة تروي حكاية الثورة ووقائعها، لكن قلة منها نجت من فخاخ الغرق في أسر الشعار السياسي، الذي يؤدي إلى إنتاج مقولات تعميمية، ويقسم الواقع بين مؤيدين للحق وأعداء له، بينما ركزت أعمال أخرى على إعادة انتاج سردية الثورة في سنتها الأول بوصفها ثورة السوريين الباحثين عن مستقبل يقوم على وجود الدولة المدنية الديموقراطية.

كما أن قلة من الأعمال التي ظهرت هذا العام، قامت بالاشتغال على فنية وشعرية النوع الإبداعي، ما أدى في المحصلة إلى غياب التميز الذي يكشف عن وجود التراكم الإبداعي المفترض، والذي يحدث عادة، بالتوازي مع الأحدث الكبرى المؤدية لانعطافات كبرى في حيوات الشعوب. لا بل إن ملمحاً غير حميد بات يظهر في كتابات كثيرين من الجيل، الذي ظهرت أعمالهم في العقد الماضي، هو الترهل في الخطاب الإبداعي، وانتحال موقع الحكمة في القول، رغم ضعف التجربة العمرية والحياتية، فغابت حيوية الشباب، واللغة المتمردة، وانتفت الصياغات المختلفة! ما جعل النص المنتج في المشهد غير متمايزٍ، فلا يعرف القارئ أياً من المبدعين الشباب قد كتبه، بسبب التشابهات بينهم، واشتغالهم على ثيمات معدودة، يربط بينها أنها صالحة للتداول في أسواق النشر الأوروبية. فصار السعي لإنتاج النص القابل للترجمة، والذي يرضي القارئ الأجنبي الافتراضي، هاجساً يلهث خلفه هؤلاء.

انهيار فعالية مؤسسات الدولة في الواقع، وفشلها أدى إلى التصدر المركز لدولة موازية قوامها الفساد كل شيء في الداخل السوري، أبرز فعلياً الاحتفالية الاستعادية التي اُشتغل عليها في مؤسسات عديدة، للمملكة السورية، التي ولدت العام 1918، ودمرت بعد سنتين على يد الجيش الفرنسي الذي فرض الانتداب على سوريا.

ولعل أهمية ما تم تداوله والحديث عنه في هذه التظاهرة تأتي من الأسئلة التي طرحت حول أسباب انهيار التجربة في ذلك التاريخ العاصف، ودور القوى المحلية في السياق، ومواجهة الإرادات الدولية، والتي عملت على تدمير الديموقراطية السورية الوليدة! وقبل ذلك تبسط مسألة المقارنة بين واقعي الحال بين الماضي والحاضر، تفكيراً معمقاً، في البنى المتحكمة والراسخة في سيطرتها على فئات المجتمع وأدواته المنتجة.

*المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here