عابراً وسط بحيرة الدم السورية، مر خبر مقتل ثلاثة من الرعاة وسرقة وإبادة أكثر من 400 رأس من الأغنام، الأسبوع الماضي، في منطقة الرهجان شرقي حماة، وسط سوريا!
ومثله، يمرُ الآن خبر سقوط 18 من العمال الزراعيين الموسميين بسبب وقوعهم في حقل ألغام، بعد أن قصدوا المكان، محيط مدينة السلمية، شرق حماه أيضاً، من أجل البحث عن فطر الكمأة!
سيقوم محررون صحفيون يهتمون بهذا الحدث، على طاولات التحرير، بكتابة التفاصيل بشكل شبه احترافي، فيضعون له الخلفيات المطلوبة، ويميلون فيها صوب شرح واقع الحرب المستمرة منذ عشر سنوات، والتي مازالت توقع الضحايا هنا وهناك، رغم توقف القتال في كثير من المناطق.
بينما سيتوسع البعض الآخر في عرض أسباب وجود مثل هذه الكمية المهولة من الألغام، في بقعة صغيرة، من الأراضي السورية، لم تقم أي جهة بخطوات في سبيل تخليص سكانها من هذا النوع من الأخطار المتوقعة، والتي يمكن لها أن تفتك بحيواتهم!
غير أن أحداً لن يقوم بالتمحيص في خلفيات من سقطوا ويسقطون هناك، بشكل شبه يومي، فهم عمالٌ زراعيون موسميون، يعملون عادة شهراً أو شهرين في أوقات الحصاد، ويقعدون في منازلهم شهوراً! يشتغلون في قطاف القطن، ثم يتحولون لأعمال أخرى متعددة.
وقد ساءت أحوالهم، بعد تدهور أوضاع الزراعة في سوريا قبل الثورة السورية، إثر رفع أسعار الوقود، ورفع الدعم عنها، وقد تضاعف السوء بعد تحول الأرياف السورية إلى ساحة حرب، توقفت كل الأعمال فيها، ثم عادت الأنشطة بخجل إليها، بعد استعادة قوات النظام سيطرتها عليها!
الفقر المقترن بالبساطة، هو الوسم الأبلغ للتعبير عن هؤلاء السوريين، الذين كانوا ومازالوا هم الشريحة الأكثر استهدافاً من قبل قوات النظام وميليشيات الشبيحة والفصائل الطائفية والجهادية على حد سواء؟!
ولأنهم بسطاء، يشغلهم تأمين اللقمة والكساء لأطفالهم، لن يجيبونا عن سؤالنا الأحمق؛ أتستحق حبة الكمأة البنية المغلفة بتراب البادية وأراضيها الصفراء، أن يموت إنسان على وجه الأرض من أجلها؟!
كانت الكمأة طعاماً عابراً في يوميات السوريين، فهي فطر بري موسمي، ينبت في مناطق البادية، بعد هطول الأمطار، وبعد حصول العواصف الرعدية.
ولهذا فهي أيضاً ذات ثمن مرتفع، وذلك بسبب كونها ثمرة برية، لا يزرعها الإنسان، وأيضاً بسبب عدم توفرها في أماكن واضحة، حيث إنها تحتاج لمن يقوم بالبحث عنها، في المناطق غير المأهولة.
وقد نشأت للكمأة تجارة موسمية خاصة بها، يعمل فيها آلاف من المزارعين الموسميين السوريين، الذين يقومون بالتدرب على طرق كشف أمكان وجودها في الأرض، وكيفية جنيها، ومن ثم تسويقها في المدن والبلدات السورية، وصولاً إلى تصديرها إلى الدول المجاورة وغيرها.
في سياق الحرب السورية، وخاصة على المستوى الاقتصادي، صار تعاطي السوريين مع هذه الثمرة، أكثر أهمية مما مضى، وذلك بسبب حالة الفقر الشديد التي باتت سمة للغالبية العظمى من السوريين، ما جعل من الحصول على هذا الفطر وأنواعه، وعلى كثير من النباتات القابلة للطهي والاستهلاك البشري، حاجة ملحة، بالنظر إلى الارتفاع المضطرد للأسعار، وهكذا صار الذهاب من أجل البحث عن الكمأة، أمراً اعتيادياً، بالتوازي مع عمل بعض قادة الميليشيات الداعمة للنظام، على الاستحواذ على سوق هذه المادة، نظراً لما يمكن جنيه من أرباح، دون تكبد مصاريف كبيرة أو أتعاب كثيرة في المقابل.
الكارثة الواقعة حالياً على عمال الزراعة الموسميين، وعلى العائلات التي تحاول توفير رزقها عبر مثل هذه الأعمال، تبدو أكبر بكثير مما يمكن تحمله، إذ بات من النادر أن يمر أسبوع من دون أن تحمل أيام المحافظات المطلة على البادية السورية أنباء عن سقوط قتلى بين هذه الفئة المستضعفة من فقراء سوريا، ولا سيما أن جميع قوى الأمر الواقع، لا تنظر إليها، على أنها فئة تستحق أن تحرك وحدات كشف الألغام -إذا لم نقل الجيوش- من أجلها، لا بل إن مجرد بقائها في ضفة الأعمال الطبيعية، وليس التشبيح، سيجعلها هدفاً للعناصر الأمنية، حيث تفرض عليها الإتاوات، ويطلب منها أن تعمل لحساب هذا الزعيم أو ذاك!
تشير بعض المواقع الإعلامية إلى أن حقل الألغام الذي وقع فيه هذا العدد الكبير من الضحايا، هو “من مخلفات المعارك” التي دارت في هذه المنطقة، التي استعاد النظام السيطرة عليها قبل ثلاثة أعوام من تنظيم الدولة/ داعش!
غير أن الهروب بهذا التحديد العام من تسمية من قام بتلغيم مناطق عديدة في هذه المنطقة وغيرها، لم يمنع البعض الآخر من اتهام النظام بالقيام بذلك، ولا سيما أن المنطقة التي وقعت فيها الفاجعة الأخيرة كانت تحت سيطرة قواته، بينما ذهب البعض الآخر، إلى اتهام تنظيم داعش بذلك، وطبعاً يضاف إلى هؤلاء وسائل إعلام النظام، وتلك المدافعة عنه، التي أحالت هذا الإرث القاتل إلى العصابات الإرهابية!
من يموتون الآن، في دروب البحث عن الرزق، ليسوا فائضاً في الحسابات الوطنية وقبلها الإنسانية، إنهم بشر لا يمتلكون خيارات، وقد سدت أمامهم الآفاق، فإذا كان التخلي عن المسؤوليات تجاه المواطنين هو جانب أساسي من سياسة النظام مع السوريين، فإن عدم البحث في واقعهم، والسكوت عن مآسيهم، من قبل جميع القوى السياسية والعسكرية المعارضة، سيلصق بها عاراً وشبهةً توازي ما يلحق بالنظام ليل نهار!
لقد اعتاد السوريون، على علامات خاصة تبشر بقدوم الربيع، مثل لطافة الجو، والنسائم النقية، وظهور الكمأة أيضاً، لكنهم خلال هذا العام، ومثل الأعوام التي سبقته، سيضيفون إلى ما سبق؛ دم البسطاء، وقد سال في الدروب، وفي الحقول!
*تلفزيون سوريا