علي سفر: “تنسيقية بولييه” لعبد الناصر العايد..المهزومون في ليلهم الطويل

0

في الرواية، وفي المسرح، كما في السينما، يلجأ صنّاع المنتج الإبداعي إلى أبسط الأشكال الفنية، أو الأساليب، حينما تتوافر بين أيدهم حكاية كبيرة، ذات مضمون مؤثر، يكفي أن تستعرض تفاصيلها أمام الجمهور حتى يتبعك ليعرف خواتيمها!

في مثل هذه الحالة، يمكن جمع الشخصيات في حلقة دائرية، تتوسطها نار تعسّ وتحركها الريح، كما لو أننا في فيلم رعب، تدور أحداثه في مخيم صيفي، في ليلة معتمة، لتبدأ كل شخصية بسرد التفاصيل الخاصة بها.

الانتقال من الحاضر، إلى الماضي، ثم العودة إلى الواقع الراهن، في إطار كل حكاية، سيراكم وعبر تتالي القصص، المعنى الكبير، أو لنقل يؤسس للحكاية الكبرى، التي يجب على المُنتَج الفني أن يمتلك خطاباً خاصاً حيالها. وإذا كانت “الثيمة” ههنا، ليست قصة مرعبة تحدث في غابة معتمة، وليست جرائم تسلسلية، يلحق الضحايا فيها قاتلاً مقنّعاً مجهولاً، بل قصة ثورة حدثت في بلد ما، يروي بعض من شارك فيها حكاياتهم الشخصية، فإن الإحساس الذي سيراود القارئ ومنذ البداية، هو أنه يترقب حدثاً ما، يعمل الروائي على رصف الطريق صوبه، ولعله سيكون من المبهر أن يكون في المحصلة غير متوقع، ولا محتمل.

وضمن سياق مثل هذا، يؤسس عبد الناصر العايد في روايته “تنسيقية بولييه”، الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان-الأردن، المجرى العام للحدث الراهن بوصفه عتبة ثانية بعيدة من الحدث الأول، زمانياً ومكانياً، لحكاية الثورة السورية. وعبر استدعاء سرديات شخصياته، التي يجمعها وكأنه يُجلسها في حلقته الخاصة حول النار، فتلتقي في مقهى باريسي بناء على دعوة من إحداها، من أجل تأسيس “التنسيقية” التي ستحاول الانعطاف بمجرى التاريخ، فتصلح ما أفسد وخرب ومرض في جسد الثورة، وما تمخض عنها من فجائع وآلام، من أجل أن تعود إلى الحياة، وتمضي بآمال وأحلام السوريين إلى ما يجب أن تنتهي إليه.

لكن، وعلى سبيل الاستفهام لا أكثر، سيضطر القارئ، الذي ستستهويه القصة طالما أنها تتعلق بالثورة السورية، لطرح السؤال: مَن هؤلاء الذين سيفصحون عما جرى في حكاية الثورة، ولو من باب السرد الروائي؟

الجواب لن يتأخر، طالما أن القضية حساسة جداً بالنسبة للروائي، وللمتلقي، ولشخصيات الرواية أيضاً. إذ سيروي وائل داوود، محرر محضر الاجتماع الأول للتنسيقية، تعريفاً موجزاً عن الشخصيات، فهو يحمل دكتوراة في علم الاجتماع من جامعة دمشق، انشق عن قوات النظام أثناء خدمته الإلزامية، مسيحي من وادي النصارى. أما فيصل البكري، فهو ناشط ثوري من حلب، متشرد في دمشق يُلقب بقابيل، وقد دعا إلى تأسيس التنسيقية من أجل أن يواظب على لقاء تالا حيدر الصحافية العلوية، التي شاركت في الثورة واعتُقلت من أجلها.

ومن المشاركين في اجتماعات تأسيس التنسيقية، قيس الشعباني، وهو ضابط منشق من سراقب، كان قائداً لمجموعة “كتائب سوريا الحرة”، ثم صار محللاً منفصلاً عن الواقع. وأيضاً لجين بنكه جي، طالبة الدكتوراة في العلوم السياسية بجامعة باريس الثامنة، التي تحمل الجنسية الفرنسية. وكذلك الناشطة الثورية اللاذقانية، سيدرا الحاج منصور، التي ضللت شبيحة الأسد وقادت كثيرين منهم إلى كمائن ثورية. ومعهم أيضاً، مصطفى الأقرع، وهو صحافي إسماعيلي من مدينة سلمية، ناشط ثوري في فايسبوك. وكذلك حذيفة الأحمد، وهو من مؤسسي تنسيقية داريا، اتهمه النظام بفبركة قتل المدنيين واختلاق المجازر، ويلقبه من حوله بالفبركجي! وأخيراً، جابر الأحمد جابر، مدرّس الرياضيات القادم من دير الزور حيث كان ناشطاً إعلامياً وسياسياً، تنقل من صفوف التنسيقيات إلى القتال في صفوف “الجيش الحر”، والتصدي لـ”داعش”، والوقوع في أسرها والنجاة منها بعدما تولى أحد منتسبيها من أقاربه حمايته، ثم التعامل مع التحالف الدولي وتزويده بمعلومات عن الأجانب المنضوين في صفوف التنظيم.

فعلياً، ستكشف تداعيات السرد الشخصي، لكل من هذه الأسماء، أن العوالم السورية، وطيلة سنوات الثورة ستحضر ههنا بشكل أو بآخر. لكن، هل يكفي ذلك من أجل أن تُستكمل التوليفة الجذابة للرواية؟!

وضعَ الراوي الغاية السامية التي يشترك حولها هؤلاء (الثورة المتجددة من أجل حرية السوريين) كهدف في سياق أدوار الفاعلين، من أجل بناء الوحدات السردية الخاصة بكل شخصية، حيث ثمة إلهام عام تفرضه هذه الفكرة على الجميع. لكن ما تواجهه كل شخصية، سيختلف عن الأخرى، وبما يسلسل سردياً قوام الرواية كله.

هكذا، سيختص كل فصل من فصول الرواية، بماضي حياة، وتداعيات كل الشخصيات على التوالي، عبر تعزيز الكشف عن التناقضات بين التاريخ الشخصي الملتصق بالثورة، ثم انكساره، وصولاً إلى واقع الهزيمة الراسخة، حيث في المنفى لا يفعل المهزومون شيئاً سوى التحسر على ما مضى. وسيقود هذا، القارئ، إلى تلمس الترسيمة الأساسية للرواية وعبر الاستغراق في وقائع الشخصيات؛ إنها تستعيد تفاصيل الماضي، لكي تحاول أن تنتصر في حاضرها. فهي تبحث، ضمن ما جرى معها، عن أسباب الهزيمة، التي لا يكفي المرء من أجل التحرر منها، التعاطي معها كحالة محض سياسية، بل إن عليه البحث في كل التفاصيل الحياتية عن التجاويف التي تحتشد فيها كوامن الأذى النفسي، أو لنقُل القنابل الموقوتة داخل الشخصية السورية، وهي تنكشف أمام العالم، فتكتشف أنها قد خضعت، طيلة نصف قرن، إلى التغييب العقلي والحضاري، وستتعثر أمام التفاصيل التي تواجهها في حياتها الراهنة. تفاصيل تبدأ بطبيعة العلاقة مع المكان، وتمر بالجنس، وفهم كينونة السوري الآخر، وصولاً إلى التصورات المفترضة عن سوريا المستقبلية!

ما يحسب هنا للرواية، هو أنها لا تستغرق في الثرثرة، والتركيز والبناء على المنولوج الذاتي لبعض الشخصيات دون الأخرى، والذي يتعاضد مع نتف توثيقية مما حدث مع السوريين. كقيس الشعباني، في لقائه مع جميل حسن، قائد المخابرات الجوية لدى النظام (ص25)، وأيضاً حين يبوح بما جرى معه حينما كان في طائرته، في مواجهة المدرسة التي طُلب منه أن يقصفها (ص112-120)!

لكن، في المقابل، قد يعتبر بعض القراء، أن ثمة استعجالاً في الكتابة، يمكن ملاحظته، عبر القفزات السريعة بين عوالم الشخصيات، لا سيما في الاجتماعات التي تجري بينها. وأن الحوارات التي استلهمتْ لغة الشارع اليومية، وكذلك الشيفرات التي تستخدم في “تشات المسنجر” وغيره، وكما استخدمها عبد الناصر العايد، لم تفصح عن مكنونات عميقة، يفترض أن تُحدِث تراكماً يؤدي إلى انتقالات عريضة في مسار الأحداث، وتحولات الشخصيات في آنٍ معاً. خصوصاً أن جوهر الفكرة يقوم على الاجتماع المادي بين الأفراد تحت عنوان “التنسيقية”. فالأهوال التي سينتهي بها الحدث، كانت تستحق تأسيساً مختلفاً، لا سيما لجهة التوغل في الدوافع النفسية، إذ سيقع على القارئ، وكوقع الصدمة، أن يكون إحدى الشخصيات، إنما ليقود المجموعة كلها إلى حتفها!

لقد بدأ الحدث كحلم جميل ناصع البياض، لكنه انتهى، وعبر سلالات الهزائم الشخصية المتعددة، إلى انكسارٍ وطني كبير، يؤلفه واقع “ديستوبي”. البلاد باتت محكومة بالمحتلّين وعملائهم، وكل يوم يمضي يحمل اندحاراً جديداً للقوى الثورية لصالح تمدد المشاريع الفئوية والطائفية، بما فيها مشروع الفئات الجهادية وعلى رأسها تنظيم “داعش”، الذي يحضر كالسرطان في جسد “التنسيقية”، وحيوات أفرادها، فيهزمهم، وينهي حكاياتهم بموت واعتقال.

*المدن