لم يخفِ بشار الأسد في أي وقت استياءه ممن غادروا البلاد بعيداً عن قبضة أجهزته الأمنية، لكنه في كلمته التي وجهها لمؤيديه، بعد إعلان فوزه المزعوم برئاسة البلاد، قبل أيام، أعلن بشكل صريح وواضح، أن السوريين -بالنسبة له- ليسوا سوى جماعتين، واحدة “وطنية” تؤيده، وأخرى خائنة لا تكتفي بمعاداته وحسب، بل أيضاً “تركع للدولار”!
ثنائية الداخل والخارج التي فرضتها ظروف الثورة، وكذلك الحرب على الثائرين، تحضر في ثنايا كلام رئيس النظام، رغم أنه يشير لوجود مؤيدين له في الخارج، ولا يتحدث في المقابل عن مناكفين له في الداخل.
فالسياق الذي يرمي إلى تقليل عدد المعارضين وجعلهم بلا قيمة أو تأثير، يقتضي منه أيضاً أن ينزع عنهم كينونتهم البشرية، فيصبحون “ثيراناً” بدلاً من ثواراً، فضلاً عن كونهم -بحسب كلامه-“عملاء وأزلام”!
قبل ذلك سيتحدث القائمون على “الانتخابات” عن رقم كبير غير منطقي لعدد المشاركين فيها (من أدلى بصوته 14 مليوناً و239 ألفاً و140 ناخباً بنسبة 64 ،78 بالمئة)!
ورغم أن هذه الأرقام قد جرى دحضها من قبل عدة جهات قانونية وحقوقية، إلا أن جذر الموضوع يعود إلى مبدأ وضع كتلتي الداخل والخارج في كفتي ميزان، والعمل على تثقيل الأولى، وتخفيف حجم ووزن الثانية.
التبسيط الساذج، الذي يعمل وفقه النظام ومؤيديه وداعميه، ولاسيما روسيا، التي دخلت ومنذ وقت طويل في صراع معلوماتي ودبلوماسي مع الأوروبيين، حول أعداد اللاجئين وضرورة إعادتهم إلى وطنهم ولو بالقوة!
يتسرب كثيراً إلى مساحات مواقع التواصل الاجتماعي، فيجري نقاش هنا أو هناك، والسؤال عمن يمكن لأصواتهم وشعاراتهم السياسية، أن تعبر عن الجميع؟!
فهل يستطيع الذين يقيمون خارج سوريا أن يتحدثوا باسم الكل؟
أم أن عدم تعرض هؤلاء للظروف ذاتها، التي يعيشها أولئك الذين بقوا في الداخل، يحجب عنهم حقهم، في أن يتحدثوا كمواطنين كاملي الأهلية؟!
ومن هذا الفضاء ينتقل الحديث، ليصبح جزءاً من خطاب يتبناه بعض معارضي النظام أنفسهم، ممن قرروا أن يواجهوه، ضمن شروط البقاء القاسية، فيتبنون صيغة تأثيمية للآخرين في الخارج، تتشابه مع ذات الصيغة التي طرحها الأسد في كلمته البائسة، فيصبح الآثمون عملاء للأجندات الخارجية! حيث تتكرر لدى هؤلاء وغيرهم عبارات عامة تتحدث عن الدعم الخليجي والتركي والأميركي والأوروبي للقوى السياسية، التي تعمل على تحقيق أهداف الثورة، التي يتبناها غالبية من يرون مستقبل البلاد دون بشار وزمرته، وتبنتها القوى الإقليمية والدولية في صيغة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 والمتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية!
مسألة الدعم الخارجي، حتى وإن جاءت تحت إطار القرار الأممي المذكور أعلاه، وصارت كقميص عثمان، تستخدم من قبل البعض لسحب الحقوق السياسية والمواطنة من المعارضين في الخارج!
يمكن، وبقليل من الجهد، الرد عليها، وعلى من يتمترسون خلفها، فالنظام نفسه، يستأثر بكل مقدرات الدولة، لا بل إنه يجرّم كل من يحصل على تمويل خارجي، حتى وإن كان العمل الذي يقوم به غير سياسي، والجميع يعرف أن كل التمويلات الحالية، والمساعدات التي تأتي من خارج سوريا، ومن المؤسسات الدولية تحديداً، تستولي عليها مؤسسات أسماء الأسد!
وفي الوقت نفسه، لا تقدم الدولة الأسدية تاريخياً أي مال للقوى السياسية المستقلة، وتكتفي بمنح الأحزاب المنضوية في الجبهة الوطنية التقدمية بعض الجعالات التي تكرس تبعيتها لحزب البعث!
طبعاً، الحديث عن الدعم الخارجي، يبدأ بالإشارة إلى حصول من ينالونه على الرفاهية: “معارضة فنادق خمس نجوم، تجلس تحت المكيفات، إلخ”. ويصل في النهاية إلى جعلهم عملاء للجهات التي تدعمهم، فيصبح هؤلاء قطريين أو سعوديين أو إماراتيين، أو أتراكاً أو عملاء للولايات المتحدة، أو للأوروبيين!
فالصياغات التي تتهم الآخرين بتهم جاهزة، لا يمكن أن تؤسس خطاب نزع الشرعية عنهم، إلا من خلال جعلهم خونة، ينفذون أجندات الأعداء، ويبيعون القرار الوطني لجهات إقليمية أو دولية!
وهنا يُلاحظ أن صيغة الاتهام كانت غير عادلة في غالبية الأحيان، فحين يجري سوق الاتهامات من قبل بعض المعارضين في الداخل، ضد هذه الجهة أو تلك، يتم السكوت عن الدعم الإيراني والروسي للنظام!
والعمالة لدى المؤيدين ولدى الآخرين الذين يجرمون “جماعة الخارج” ترتبط بالجغرافيا معظم الأحيان، وتحديداً بالحيز الذي لا يمكن لقوات النظام أو أجهزته الأمنية السيطرة عليه!
وكما في كل شيء، يجري وضع الجميع في سلة واحدة، ويتم تجاهل أن المعارضة ليست كتلة أسمنتية صماء واحدة، بل هي متعددة، تتعدد مواردها، من التمويل الذاتي، وصولاً إلى التمويل الدولي، مروراً بالدعم المالي والعسكري لقوى الأمر الواقع على الأرض، واستغلالها للموارد المحلية، إن كان في الشمال الشرقي (مناطق الإدارة الذاتية) أو الشمال الغربي (مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام)!
تبعاً لما سبق، يمكن الجزم بأن تقسيم السوريين ضمن معادلة الداخل والخارج ليس بريئاً تماماً من غايات لا يخفيها رأس النظام، فهو يريد مجتمعاً متجانساً، يصبح فيه الذين يعيشون في مناطق سيطرته رهائن، لا يملكون من أمرهم شيئاً سوى أن يشاركوا في تأبيد سيطرة حكم العائلة، والامتثال له، والقبول باستمرار الزمن الأسدي إلى الأبد، بينما يتم شطب البقية، وكأنهم مجرد خطأ في أرقام المعادلة!
*تلفزيون سوريا