علي سفر: بين شامبليون وكولومبوس وسليمان الحلبي.. مَن المجرم ومَن البطل؟

0

كل يوم أمر في الساحة التي تحمل اسمه، فأتأمل في تمثال القائد الفرنسي جان باتيست كليبر، الذي خلف نابليون في قيادة الحملة الفرنسية على مصر، وكان مصيره القتل على يد الطالب الأزهري السوري سليمان الحلبي.

اختلفت لعبة المصائر في نسج نهايات كل من الرجلين، فبينما تم دفن كليبر في وسط مدينته ستراسبورغ، ونحت تمثاله بمعايير جمالية كلاسيكية، قُطعت يد الحلبي بعد حرقها أثناء تعذيبه، ثم أعدم على الخازوق، وقطع رأسه، لتنتهي جمجمته في متحف الإنسان بقصر “شايوه” فى باريس، وقد كتب تحتها أنها تعود لمجرم.

التباين بين المصيرَين يبدو طبيعياً في سياق قراءة السردية الواقعية لتلك الحقبة، التي تظهر رموزها وتفاصيلها في كم هائل من المادة البصرية المحيطة بعيون المتجولين في البلدان الأوروبية ذات الماضي الاستعماري. وإذا شاء أحدٌ ما أن يتجاوز المطالب العادلة للشعوب المُستعمَرة والمحددة في الوقت الراهن بقيام الدول المستعمرِة بالاعتذار من ضحاياها ودفع تعويضات عن تلك المرحلة، وقرر أن يفرد حزمة الغفران عن هذا الماضي المظلم، فإن واحدة من هذه المهاميز التي تنقر جسد الشخصية الاستعمارية لا بد ستكون: إزالة الرموز والتماثيل التي تدل عليها!


(تمثال شامبيلون في باريس)

في الولايات المتحدة، وفي فترة قريبة ماضية، قامت جموع من الشباب، من أصحاب المواقف الراديكالية تجاه مرحلة العبودية، بإزالة تماثيل عدد من شخصيات المجموعة الكونفيدرالية التي خاضت الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر، بغية الحفاظ على سياسة استعباد الأفريقيين. وقد تجاوزت الهجمة ضد هذه الرموز الحجرية، ذلك الحد، فوصلت إلى قيام المحتجين في ولاية فرجينيا بتحطيم وإحراق تمثال المستكشف كريستوفر كولومبوس، ثم رمي حطامه في البحر بعدما كتبوا في مكانه عبارة تقول:” كولومبوس رمز الإبادة الجماعية”.

لكن هذا النهج الذي تصاعد بعد حادثة مقتل الأميركي الأسود، جورج فلويد، خنقاً على يد شرطي أميركي، لم يستدع من السلطات في الولايات أو في المركز الفيدرالي أي تصرف يتعدى مراقبة ما جرى وما يمكن أن يجري. إذ لا أحد يريد أن يعبث مع الدبابير في أعشاشها، لا سيما أن التماثيل برمزياتها ليست مجرد أحجار منحوتة بشكل جميل، بل إنها تكوين من تكوينات السلطة ذاتها.

صحيح أن بلدان الغرب المتقدم أمست لا تكرس الأفراد في مواقع السلطة، بحكم أنها أنظمة ديموقراطية، ولم تعد تصنع لهم تماثيل يتم نصبها في الأماكن العامة، بل صارت تكتفي بأحسن الأحوال بنحت تماثيل وجهية نصفية، تلصق على الجدران في الجامعات والمراكز البحثية والمتاحف، لكن من قال إنه يمكن بحكم الديموقراطية إزالة رموز الماضي الاستعماري، بناء على مطالب النخبة الثقافية المعادية للاستعمار، وكذلك بناء على مطالب الشعوب التي مازالت تشعر بأنها لم تتصالح مع ماضيها حينما تم قهر إرادتها واستعمارها وقتل أبنائها ونهب مواردها، ولم تتحرر حتى الآن من علاقتها الاقتصادية مع مستعمريها؟!

من يستطيع أن يقارب محو الماضي الآثم، في ظل تقدم اليمين المتطرف في أوروبا وفي أميركا أيضاً، والذي يشكل اعتزازه بشخصياته القومية وماضيها جزءاً من تكوينه وشخصيته وخطابه الراهن؟!

ضمن هذه المعادلة، وفي الوقت الذي أفتتح فيه معرض “شامبليون طريق الهيروغليفية” في متحف “اللوفر- لِنس” شمالي فرنسا، بهدف استعادة “المغامرة الإنسانية والفكرية الرائعة” للعالم الفرنسي شامبليون في فك لغز رموز الكتابة الهيروغليفية في مصر، قبل 200 عام كما يقول خبر الوكالات، فإن الاستياء الشعبي المصري المتكرر من تمثال العالم الفرنسي المنصوب في ساحة الكوليج دو فرانس، يبدو مفهوماً لجهة الاعتزاز بالشخصية الثقافية الفرعونية التي تشكل جزءاً راسخاً في تكوين الإرث الحضاري المصري.

غير أن المطالب بإزالة التمثال التي بدأت تظهر منذ العام 2011، تبدو مغرقة في ذاتيتها، بالنظر إلى أن مشهديته التي تزعجها، أو تثير حفيظتها، لا تبدو مرتبطة بزمننا الحالي، وهي جزء من ماضٍ إشكالي، مع ضرورة النظر إلى خصوصية الشخصية. فالتمثال الرخامي الذي نحته الفنان الفرنسي فريديريك أوغست بارتولدي، العام 1875، ويصور شامبليون واقفًا بقدمه اليسرى على رأس فرعون مصري، لا يقول ما يعتقده المعترضون عليه. فهو نتاج ثقافة مختلفة ماضية، لا ترى الأمور كما يراها أبناء الحاضر، مع إمكانية وجود فرضيات تأويلية مختلفة للتعاطي مع الجزء المُختلَف عليه، أي وضع القدم على رأس تمثال الفرعون. إذ يرى البعض أن شامبيلون ليس قائداً عسكرياً ليكون فعله مرتبطاً بقهر الخصوم، بل هو عالم شكلت بالنسبة له عملية فك رموز حجر الرشيد أكبر تحديات عمره وتاريخه العلمي، وبالتالي فإن انتصاره وتحقيقه لهذه الغاية، كان هو الهدف من رمزية الحركة، وليس الإساءة للشخصية المصرية.


(تمثال كليبر في ستراسبورغ)

في ساحة كليبر وسط مدينة ستراسبورغ، يقف تمثال كليبر، الذي نحته الفنان الالزاسي فيليب غراس، فوق قبره، وقفة خيلاء، بينما وضع وراء ظهره تمثالاً صغيراً لأبي الهول. وبنظرة بسيطة لا تحتاج للمقارنات، يظهر أن عظَمة القائد المطعون في مقره في القاهرة، تفوق عظَمة التمثال الفرعوني، لكنها لا تسيء إليه بمعايير الراهن، إلا إذا قرر أحد ما أن يكون متشدداً فيضع التأويل القسري المناسب له ولتوجهاته نصب عينيه، ليجعل منه قضية تتجاوز المسائل الفنية والثقافية، تدخل في بازارات السياسة وإشكالياتها الراهنة!

ثمة لعب كبير يخوض فيه أصحاب القضايا الكبرى، تمتد فيه الأيدي إلى تفاصيل صغيرة، فيتم النفخ فيها، لصالح الأيديولوجيا أو المصالح السياسية، وحتى النزعات التحريضية القومية ضد المستعمرين. كتلك الرواية غير المثبتة عن قيام الجنرال غورو، فور دخوله دمشق بعد معركة ميسلون العام 1920، بالتوجه صوب ضريح صلاح الدين الأيوبي ليضع قدمه عليه ويخاطبه بالقول: “لقد عدنا يا صلاح الدين”!

وفي الوقت نفسه، ونحن نتذكر قيام الأميركيين بإسقاط تمثال صدام حسين، كقيمة رمزية، في بغداد فور دخولهم العاصمة العراقية في العام 2003، كإيذان بنهاية مرحلة وبداية أخرى، لا بد من أن نستعيد تأكيد الثائرين على أهمية القيمة ذاتها، في موجة تحطيم تمثال حافظ الأسد في خضم السنتين الأولى والثانية للثورة السورية، ومسارعة النظام إلى نقل التماثيل إلى أمكنة آمنة، ثم إعادتها إلى مكانها بعدما استتب له الحال في غير مكان ومدينة.

التماثيل ليست مجرد أحجار، هذا ما يؤكده النقاش المستمر حولها. لكن تحويلها إلى قضايا كبرى بذاتها، قد يكون إلهاء للناس، وتحويلاً للأنظار، من حيث يجب أن تكون، إلى جهة غير واضحة المَعالم، يتداخل فيها الماضي بالحاضر، وسط ضباب وعماء أيديولوجي كثيف!

*المدن