لا يكاد يمر أسبوع من دون أن تعاجلنا الأخبار بالعثور على جثة أحد اللاجئين السوريين، مرمية في منطقة ما في جغرافية أحد البلدان، التي لجأ إليها الهاربون من مقتلة نفذها النظام طيلة السنوات الماضية ومازال مستمراً.
وبالتوازي مع هذا، لا ينقضي يوم من دون أن نقرأ أو نسمع تصريحاً في لبنان وتركيا، يشير إلى أن الوجود السوري في هذين البلدين يتسبب بالأزمات لهما!
تكرار حدث الموت، مع تعدد أسبابه، وتنوعها بين الموت الطبيعي والحوادث والجرائم، خلق نوعاً من الاعتيادية، قد يكون التفكير خارجها غريباً، لكن تكرار تأزيم الوجود السوري على ألسنة نخب مجتمعية لم ولن يصبح أمراً معتاداً، وإذا اضطررنا إلى اعتياد ذلك، فإن من الواجب طرح الأسئلة عن وفي جوهر العادي.
هول الكارثة التي تعرض لها السوريون أطاح بالأوليات التي يجب أن يشعر الإنسان بها حينما يحدث أمامه ما ليس إنسانياً، فقد ارتجف المرء أمام مشاهد ضرب المتظاهرين العنيفة في الشوارع السورية، وتحول الارتجاف إلى اضطراب نفسي مع مشاهد القتل والذبح، ثم أدرك كثير منهم أن عليهم ألا يشاهدوا هذه الأفعال كي لا يقعوا فرائس الأمراض النفسية، وقد ساعدهم في ذلك أن شبكات التواصل الاجتماعي باتت تخفي الصور والأفلام المرعبة، وتُحاسب ناشريها، وقبل هذا كانت تنشر تحذيراً خاصاً ينبه المستخدم بما قد يراه في هذا المنشور أو ذاك.
ومع مرور الوقت، صارت قراءة الخبر، تؤدي دور الفعل الشرطي، فكلمة القتل أو الموت، بالنسبة للسوريين تفتح في الذهن قاموسها، وتستحضر لهم كامل تاريخهم منذ سقطت سوريا في براثن الحكم العسكري البعثي وحتى اللحظة التي ضحك فيها بشار الأسد في مجلس الشعب بعيد انطلاق الثورة، وصولاً إلى الدياسبورا (الشتات) السورية، بكل ما مر فيها!
يتعاطف السوريون بوصفهم ضحايا مع بعضهم، إذ لم تفرّق النصال التي انغرزت بين جسد وآخر، فالحد الأدنى من مقومات الإنسانية يكفي لأن يشعر أي منا بضرورة مساندة الآخر، ودعمه معنوياً، في حال لم يكن بالإمكان تقديم العون المادي له، وكما يحدث في سياق أي كارثة، يتلفت المنقذون صوب الضحايا، ويصبح الواجب هو الحفاظ على حيواتهم، ومن بعد ذلك تتوالى المهمات، والتي تنتهي بالبحث عن الأسباب والعمل على إنهائها كي لا يتكرر الحدث المريع!
وأيضاً تعاطف السوريون مع مصائب الآخرين دائماً، وسجلات الذاكرة تحكي عما فعلوه لإخوانهم العرب الذين حلت بهم النوائب، كما تروي عن قيامهم باستقبال اللاجئين من البلدان القريبة البعيدة أيضاً، ولهذا كانوا يأملون ألا يخلق وجودهم في أي مكان ذهبوا إليه مشكلة أو أزمة، لقد أدوا ما عليهم من الواجبات الإنسانية في الماضي، وعلى الآخرين أن يقابلوهم بالمثل!
ولهذا لن يكون من المقبول في أي عرف إنساني أو أخلاقي أن تصبح كلمة اللجوء مفتاحاً لمغارة الأزمات الكبرى التي يعانيها مستضيفوهم.
لم يمنّن السوريون الآخرين بما فعلوه، وسجلات الصحافة السورية في الزمن الحديث لم تتضمن يوماً حديثاً عنصرياً أو شكوى من جماعة أو قومية، كما أن المؤرخين الذين حفظوا سير وأنساب الشخصيات السورية كانوا يشيرون إلى أصولهم، فيظهر لنا طيفها الواسع، فتتضمن العرب والسريان والآشوريين والكرد والترك والفرس وشعوب وسط آسيا وقوميات القفقاس والبلقان وسكان شمال أفريقيا من العرب والأمازيغ. لقد هضمت سوريا الجميع وصاغت معناها منهم كلهم، وباتت عروبتها الراسخة تكويناً متماسكاً من العناصر المنسجمة.
وحيثما حل السوريون لم يدعوا بأنهم من نسل الملائكة، بل كانوا دائماً مجتمعاً كاملاً يحتوي مجمل طبائع البشر، ولأنهم أرادوا ألا يكونوا عالة على الآخرين وجدتهم يعملون ليقيتوا أنفسهم ويسترون عائلاتهم، وليصبحوا فاعلين في أي مكان يسكنونه، ولكي يتأكد غير العارف من هذا، فإن نظرة واحدة إلى تنامي دور الفعاليات السورية في مصر وفي الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأميركية كفيلة بذلك.
إحساس التعاطف مع الضحية، هو جزء من التكوين الإنساني، وإذا صنع أحد ما شروطاً ومستويات له، فاعلم أنه يريد أن يستثمر فيه، وأن يجعل منه مادة للتداول السياسي. وهذا يتسبب ومازال بمستوى أول من الخذلان، قوامه سقوط الجوهر الأخلاقي تحت عجلات السياسي، وسيأتي بعده مستوى ثانٍ قوامه الشعور بأن الآخرين باتوا شركاء للمجرم الذي تسبب بالحالة المزمنة!
يتذرع اللبنانيون الذين هاجوا وماجوا ضد اللاجئين السوريين بأن هؤلاء تسببوا بالمشكلة الاقتصادية التي يعيشونها، لكن صوت الضمير الذي عبر عنه مجموع من وقعوا على البيان الاستنكاري ضد الحملة العنصرية شرح بأن الأسباب واهية وأن جذر المشكلة قابع في الخلف أو بالأحرى في دواخل كل شخص عرف وأدرك طبيعة الحكم وسيطرة أمراء الحرب وصولا إلى هيمنة إيران على البلد عبر أداتها المحلية حزب الله.
كما أن تصريحات المعارضين الأتراك الذين جعلوا من السوريين مادة صراع على الطاولة لا تغش المثقفين الأتراك الذين يدركون بأن أولئك يفعلون هذا من أجل النيل من خصم سياسي مهيمن، وليس لأسباب تغير في جوهر المشكلات المحلية.
من نافل القول إن الوضع السوري بعد تاريخ طويل من هيمنة النظام المافيوي الذي لطالما تسبب بمشكلات لشعوب المنطقة وحكوماتها، ولاسيما بعد قيام الثورة ضده، سيتولد عن عدد هائل من الأزمات، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن يتم تحميل الضحايا المسؤولية عنها.
هذا حد فاصل بين أن يخضع المرء لقانون الغابة وبين أن يعيش في أرفع مستوى مجتمعي صنعه البشر.
*تلفزيون سوريا