هل تذكرون “أبو مروان”، ذلك المجرم السوري الذي ذبح زوجته السابقة، ونال حكماً بالسجن المؤبد في مدينة كارلسروه الألمانية؟ هذا الكائن، وأثناء قيامه ببث مباشر عبر “فايسبوك”، بعد قيامه بفعلته، وأثناء وقوفه مع ابنه أمام منزل ضحيته، أرسل للسوريين عبارة ما زالت ترن في الرأس، إذ قال: “هلق رح تجي الشرطة الألمانية، وكف واحد ما باكل”!
الفرق في معاملة الأجهزة الأمنية مع من يرتكب الجريمة في سوريا، أو أي بلد عربي، وبين معاملة أمثالها مع من يرتكب الجريمة أيضاً على أرض البلدان التي تحفظ كرامة وحقوق الإنسان، كان نقطة الفصل، بين تردد هذا الرجل، وبين مضيه في فعلته.
وإذا كان لنا أن ندقق في أثر اختلاف القوانين والأنظمة، في معدلات ارتكاب الجرائم، فإننا حكماً لن نلحظ وجود ارتفاع في معدلاتها في أوروبا وغيرها من البلدان المتطورة، بالقياس مع معدلاتها في بلداننا! لماذا لا ترتفع النسبة؟ رغم أن آليات التعاطي مع المجرمين القتلة، وكذلك مع من يرتكبون جنايات أخرى، تبدو غير عنفية، كما ادعى أبو مروان، وهو يشجع أمثاله، على فعل الأمر ذاته مع نسائهم؟
هذا لا يحدث، لسبب رئيس، هو أن الحريات الشخصية بمستوياتها كافة، محفوظة ومصانة بموجب القوانين، واحترام كرامة البشر، وهو أمر مؤسَّس له منذ عشرات السنين، وبما لا يترك لأي كان فرصة لأن يعتقد بأنه يمكن له أن يستحوذ ويسيطر على الآخر، لا زوجته، ولا أولاده، فلا يستطيع الاقتراب من أي عتبة قد تمكنه من تهديد حريتهم، فكيف الحال بتلك التي تهدد حيواتهم؟ فإذا كانت الأرضية التي يقف عليها الجميع، هي هذه، فإن وقوع جريمة ما، حتى الأفعال التي يرتكبها إرهابيون، لا يعني أن للشرطة أو للقوات الأمنية الحق، في إهانة شخصية المجرم، ولا مسّه، في حال لم يمانعها! لهذا، قام عدد من “الأبو مروانات”، على مدى سنوات، بارتكاب جرائم مشابهة في ألمانيا، وغيرها، فالثقافة الراسخة في عقولهم، مرتبطة بوجود العنف السلطوي، وعندما ينتفي وجوده، يعتقدون أن بإمكانهم استباحة الآخرين!
آلية الامتثال للقانون، والتعاطي مع التشريعات من دون خوف، وما يقابل ذلك من احترام لكينونة الإنسان، وكرامته وحريته من قبل السلطات التنفيذية، وضعا السوريين في مسار سينتج تراكماً، يؤدي بشكل أو بآخر إلى إصلاح الواقع المدمر، بعد عقود من سيطرة النظام القمعي على حيواتهم.
لغة “الكفّ”، التي غرزت أظافرها في العقول، ستموت شيئاً فشيئاً في فضاءات الحرية، وستحل محلها لغة مختلفة، لطالما حلم السوريون بأن يعيشوا وسط ألحانها ونغماتها. لهذا، فإن العودة إلى هذه التفاصيل، ودراستها بعد عقد المقارنات، هي أول ما يأتي إلى الذهن بعدما أصدرت محكمة مدينة كوبلنز الألمانية حكمها بالسجن المؤبد على الضابط الأمني السوري المنشق أنور رسلان، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. فهذا أول حكم في أول محاكمة لضابط مخابراتي، كان يدير فرعاً أمنياً، ارتعدتُ خوفاً ذات يوم وأنا أدخله، حينما استُدعيَت زوجتي إليه بموجب تبليغ شفوي تلقته من مكتب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. ولم أكن أعرف أن قيامي بمرافقتها سيؤدي إلى تحولي، بعد نصف ساعة، إلى شخص مطلوب للتحقيق أيضاً، لكن دون أن يتم ذلك، فالمحقق المكلف بمقابلة “المجرمين” الذين وقعوا بيان “فك الحصار عن درعا” في أيار 2011، رأى أن عليه تحطيم كرامتي، وجعلي أعيش الخوف والرعب، من احتمال اعتقالي، وعلى الأقل، أن أرتعد مما يجري في الغرف المغلقة، ومن صراخ المحققين على من تمّ استدعاؤهم، ومَن اعتُقلوا في فرع الخطيب، وصفعهم لهم على وجوههم قبل أن يتحول التحقيق إلى حفلة تعذيب شرسة.
نعم، لقد كنت شاهداً على آلام الآخرين عبر سماعي لأصواتهم، وهم مقيدون، يتعرضون لاعتداء “وحوش” الأمن. لكني لم أشهد في محكمة كوبلنز، لأن سماع الأصوات في فرع أمني، لا يشكل شيئاً أمام هول ما شعر به وعاناه أولئك الذين تعذبوا، وبالتأكيد سيكون بلا معنى حين نسمعهم يتحدثون عما جرى معهم!
غادرنا ذلك الفرع بعد ثماني ساعات، وفي اليوم التالي عدنا، وأُغلق التحقيق. لكن، حتى هذه اللحظة، لم يخرج المكان من رأسي ومن حياتي، وإلى اليوم تأتيني كوابيس الاعتقال، وكلما استيقظت منها أحمد الله أنني أفيق في فرنسا، على بعد آلاف الأميال من سوريا، حيث ما زالت الفروع الأمنية تؤدي دورها، وما برح عناصرها ومحققوها يفعلون ما اعتادوا فعله، يعتقلون السوريين أو يستدعونهم للتحقيق، مرحّبين بهم منذ البداية بصفعهم على خدودهم بعنف، ليحل “الكف” بدلاً من كلمة مرحبا.
الفرق الذي يحدثه حكم محكمة كوبلنز ضد ضابط عذّب سوريين في وقت ما، وانشق ليقف ضد نظام الأسد، يأتي من أن الأفعال الخسيسة التي لطالما ارتُكبت في سوريا، تحت عيون العالم كله من دون محاسبة، قد تم وضعها للمرة الأولى في التاريخ، في سياق البحث عن العدالة لملايين مروا بتجربة التعذيب، ويتأسس في أن الموقف السياسي لا يصلح لتنظيف الأيدي من الدماء التي تلطخت بها. وبالتأكيد سينهض الفرق من تحول القضية، من مجرد “حادثة سوء حظ لأحد المنشقين” إلى ثقافة، يجب على المثقفين قبل أي أحد آخر، أن يجعلوها خبزاً يومياً لأنشطتهم وفعالياتهم، لعلهم يعيشون يوماً -إن استطاعوا- من دون خوف.
*المدن