علي سفر: المتنمرون.. كيف تصنع النخب جحافل الكارهين

0

لم تعد عبارة “التنمر” غريبة على الجمهور حول العالم، لقد اقتصرت مدلولاتها فيما سبق على أفعال الأذى التي يقوم بها التلامذة الأقوياء جسدياً على زملائهم في المدرسة!

لكنها ومع دخول سكان الكوكب كلهم تقريباً في مساحات مواقع التواصل الاجتماعي في شبكة الإنترنيت، صارت تدلل على سياق كامل من المنشورات، التي تفيض بالكراهية، ضد الشخصيات المشتهرة فنياً وسياسياً أو اجتماعياً، أي تلك التي يصطلح على تسميتها بالشخصيات العامة، وأيضاً تستهدف نوعاً بشرياً ما، أو فئة عمرية، وكذلك الفئات المستضعفة في المجتمع!

التنمر آفة الزمن الحالي، وقد صنف على أنه سلوك عنفي يجب معالجته، ولكن غالبية الدراسات المنتشرة حيال هذه الظاهرة كانت ترصد ملامحها وسلوكياتها، ولهذا يبدو غريباً بعض الشيء أن يحاول فيلم سينمائي التصدي للأمر لجهة البحث، أو محاولة تحليل شخصية المتنمر، ليس عبر عزله عن محيطه، والتعاطي معه كحالة مخبرية، بل عبر تقديمه ضمن البيئة المُنتجة له، والمُساعدة لأفعاله، والمُستفيدة منه، مروراً بالسياق الذي يتوالد فيها أمثاله!

وهذا ما يفعله الفيلم البولوني (المتنمرون) الذي طرحته قبل فترة وجيزة شبكة نتفليكس، ليكون ربما واحداً من أهم ما أنتجته ضمن النوع الاجتماعي في العام 2020.

اسم الفيلم ومنذ البداية يستحق أن يتوقف عنده المشاهد، فقد جاء باللغة العربية (المتنمرون)، أما بالإنكليزية فهو (The Hater الكاره) وسمي باللغة الفرنسية (Le Goût de la haine الروح التدميرية) بينما صدر بلغته الأصلية أي البولونية تحت عنوان (Sala samobójców. Hejter قاعة الانتحار، الكاره).

فإذا ما دققنا في طبيعة هذه العناوين كافة، سنلاحظ أنها تقود وبشكل مباشر إلى محورة الدلالات عند روح شخصية الفاعل، التي تحتمل أفعالاً سامة، كالتنمر أولاً والكراهية ثانياً، والتدمير ثالثاً، والانتحار رابعاً!

وفعلياً تنطبق هذه الأفعال ومؤدياتها على طبيعة بطل الفيلم توماس غيميزا (Maciej Musialowski)، وهو شاب في مقتبل حياته الدراسية الجامعية في كلية الحقوق، يرتكب حماقة استخدام مقاطع علمية وفكرية في أحد أبحاثه، دون وضعها بين إشارات التنصيص ودون الإحالة إلى مصادرها، ما يؤدي إلى فصله نهائياً من الجامعة، رغم توسله المجلس التأديبي!

هذا المشهد الافتتاحي في الفيلم يمكن اعتباره المسمار الأولي الذي يتم طرقه في الجدار السميك للأفعال اللاحقة المنتجة للشخصية السامة، المدمرة!

إذ تتكشف التفاصيل عن رغبة بالظهور تجتاحها، وتلتقي مع حالة عامة تسود عالم النخبة في العاصمة وارسو، وتجد ظهورها في صفحات التواصل الاجتماعي!

وبين محاولة توماس إخفاء طرده من الجامعة أمام عائلة كراسوكا التي تمول دراسته، وبين عواطفه التي يحاول كتمانها تجاه ابنتهم غابي، سيجد نفسه متسللاً إلى عوالم الطبقة الراقية، يلبس الأدوار التي تحبها هذه النخب، المتطوع، الخدوم، الإنساني! بينما سنشاهد في المساحة الخفية للشخصية دورها الفاعل في تدمير حيوات الشخصيات العامة عبر شركة علاقات عامة توظف فيها، وانغمس في خدمة عملائها، الذين يدفعون المال من أجل سحق الخصوم في أي مجال من المجالات!

التفاني في خدمة الشر لا تقف أمامه أسئلة اختبارية، كتلك التي تطرحها مديرة الشركة على توماس؛ ألا يجب أن يستند التسويق على مواقع التواصل الاجتماعي على مبادئ أخلاقية؟! فالمسألة وكما توضح هي لمرؤوسها المتحمس هي صراع، يجب عليه أن يتعلم قواعده المرصوفة في الكتاب الصيني الشهير (فن الحرب) لمؤلفه سون تزو Sun Tzu، ولاسيما مبدأ “التلاعب بالعدو، ودفعه إلى اليأس، قبل أن يبدأ بتنفيذ مخططه”!

ما يترجم بشكل فعلي ضمن الحكاية الفيلمية على شكل محاولة حثيثة للتلاعب بالجمهور، وقيادته إلى دوائر أفعال في حروب المتنافسين، تخدم العملاء دافعي المال!

هكذا سيجد توماس في لعبة الانتخابات البلدية اختباراً لقدراته، ضمن سياق صناعة الكراهية، تختلط فيه رغبته بالانتقام من العائلة التي كانت تدعمه ثم باتت تحتقره، بعد أن اكتشفت سر فصله من الجامعة عبر ابنتها، مع رغبته بالوقوف تحت الضوء، في مواجهة شريحة مجتمعية، تدعي حملها لراية التنوير في المجتمع، ورفض الشعبوية القبلية والقومية والسلطوية، والانتماء للمحيط الأوروبي وقيمه في الحرية والمساواة والديموقراطية، ولكنها لا تتورع عن سحق الشاب الذي أظهر مشاعره، فقوبل بالسخرية وبالتنمر عليه!

ضمن هذا المناخ، سيتقنع توماس في الحياة الواقعية بشخصيات زائفة للوصول إلى غايته، وهي تدمير مرشح حزب المستقبل لرئاسة بلدية وارسو بافل رودنسكي، وفي العالم الافتراضي سيصنع حملات كراهية ضده، وحملات مضادة للكارهين، ما سيؤدي إلى حصول صدام مجتمعي، يمكن لجمه في الشارع، ولكن لا يمكن السيطرة على بؤره التصعيدية!

ومن أجل إتمام المهمة، التي باتت ذات فائدة شخصية من كل النواحي، سيعمل توماس على السيطرة على مشاعر شاب متطرف، لديه كل مقومات التحول من متنمر في العالم الالكتروني، إلى متطرف إرهابي في الواقع الفعلي! ليكون أداته التي تكمل المهمة التي بدأت في مواقع التواصل الاجتماعي وبات من الضرورة أن تستكمل واقعياً.

فالمرشح اليساري لرئاسة البلدية الذي تدعمه النخب المثقفة، يواجه مرشحاً يمينياً تجتمع لديه كل المبادئ التي يكرهها الشعبويون، الذي تستثيرهم مسائل حساسة كوجود لاجئين مسلمين، وغرباء بشكل عام، يهددون القارة العجوز وقيمها، وبات من الضرورة التخلص منه، وبنفس الوقت التخلص من منافسيه إن أمكن، ضمن مجال التلاعب بالخصوم وبالجمهور في آن معاً، وهو العمل الذي تبرع فيه شركات العلاقات العامة!

هنا وفي مشهد مثير سيغرز توماس في عقل الشاب القاتل الذي سينفذ مهمة القتل الأسباب التي يجب أن تلهمه، وهي فعلياً نوابض تحول الفئات المهمشة إلى بيئة مثلى لصناعة الإرهابيين؛ “إن النخبة تحتقر أمثالنا من الناس، نحن ضحايا الظروف، وعند أقل هفوة يتخلون عنا، ويطلبون منا الرحيل، نحن من يتعرض للازدراء اللعين، إنهم يعتقدون أننا بلا أهمية، ولكننا لسنا كذلك، لقد رموك خارجاً كالقمامة، وستظل قمامة بالنسبة لهم، ما لم تفعل شيئاً”!

تنتهي مغامرة توماس بمذبحة، سيستفيد منها، ليصبح بدوره شخصية عامة، وسينجو من التبعات القانونية لمخططه الإجرامي، عبر إخفاء الأدلة، وتهديد الآخرين بما يدينهم، وإظهار الشرطة بمظهر المتستر على نمو تصاعد الكراهية، وازدهار البيئات المنتجة للإرهابيين بحجة نقص الموارد!

ينجح الفيلم الذي أخرجه (جان كوماسا Jan Komasa) في سرد مفردات ما يجري في كل المجتمعات حالياً، من تلاعب بالمشاعر والوقائع عبر استغلال مواقع التواصل الاجتماعي، ليس عبر شرح الآليات التي باتت شبه واضحة للجمهور، ولكن عبر تشريح بنية شخصية الكاره والمتنمر في سياقها.

وقد كان من الملفت في الأسلوب الذي أتبعه المخرج في بناء الفيلم سعيه إلى جعل الفضاء العام المحيط بحركة الشخصية اعتيادياً، دون التكلف في إظهار فساد النخبة، وفي نفس الوقت لم يسع إلى المبالغة في إظهار فئات المتطرفين، بل ترك السياق الحياتي كما هو، تاركاً للشخصية مساحة كبرى، في إظهار تحولاتها، وتأثرها بما ينتجه المجتمع ذاته من مشاكل بسيطة تتراكم لتنتج كارثة كبرى مثل المذبحة!

يتداول المتابعون للأفلام التي تنتجها شبكة نتفليكس، والتي باتت حاضرة دائماً ضمن جوائز الأوسكار، أن فيلم المتنمرون سيدخل المنافسة بقوة على ترشيحات جائزة الفيلم الأجنبي، سيما وأن موضوعه بات حاراً ومستفزاً للجميع.

مجلة فنار

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here