في حالتنا السورية، علينا أن نتعاطى بطرافة مع تحولات السياسيين، الذين يقومون حالياً بانتحال أدوات العمل الإعلامي، فيصبح بعضهم في نشاطه وتصريحاته، أشبه بمواطن صحفي أو ناشط ميداني، بينما يتقمص آخرون وجهاً أصفر، يشبه الصحافة التي توصف بأنها تحمل ذات اللون!
وفي الوقت نفسه، لا يجب أن يغيب عن عيوننا أيضاً تحول بعض الإعلاميين إلى سياسيين رديئين، يقومون بممارسات تحريضية، ويخلطون بين دوري الصحفي النزيه والسياسي القذر، وبالعكس، حتى لتخالهما في طور متقدم، لمرض انفصام الشخصية!
ولكن، هل حدثت هذه التحولات لدى هؤلاء بسبب استعداد من نوع ما كامن لديهم؟ أم ثمة أسباب أخرى، يجب البحث فيها، ولاسيما منها، التهميش المكثف لدور السياسيين في الواقع، من قبل الدول التي باتت تتحكم بمصير السوريين.
وأيضاً ما يجري من تبدلات وتحولات في طبيعة العمل الصحفي ذاته، في بيئة مضطربة، كسوريا، ودول عربية أخرى شهدت ومازالت تحولات قاسية، ضمن تداعيات الربيع العربي؟!
يتوقع المرء في المشهد السوري المفاجآت دائماً، وهذا يرتبط بوجود سياق تسلسلي، يفترض أن تتطابق فيه المقدمات مع السياق ومع النتائج! وحينما تضطرب هذه المعادلة، فإن المتابع لن يعرف أي من هذه العناصر هي الأسباب، وأي منها النتائج!
لكن الثابت فيما يجري، هو أننا لم نعد نعرف على سبيل المثال لا الحصر، ما هدف ميشيل كيلو، في رسائله الصوتية المتداولة ضمن مجموعات واتساب، والتي يتحدث فيها عن “أحداث” لا تحدث!
وما الذي يفعله كمال اللبواني في إطلالاته على يوتيوب، والتي ينسب فيها إلى نفسه أمجاداً ويدعي معرفة بخلفيات الأحداث إضافة إلى تخوين هنا وتجريم هناك!
ولا نعلم أي من السياسيين، أو الصحفيين، سيقرر غداً أن يفتتح قناة على يوتيوب، أو يبشرنا بموعد لبث مباشر له على صفحته على فيس بوك، فيدعي كشفه لسرٍ ما، أو معرفته بموعد حدث كبير، أو يبصّر في فنجان الأيام بحثاً عن مستقبل السوريين!
وربما لن يمضي وقت طويل حتى يحول الجميع نشاطهم إلى المحادثات الشفوية على شبكة كلاب هاوس الجديدة، فينقلون معارفهم، وانتصاراتهم وسجالاتهم المظفرة معهم إلى هناك!
ما الذي جرى لدى هؤلاء حتى أصيبوا بوباء الظهور أمام الناس، بشكل ملحٍ، وكأنهم الجزء الباقي من الظواهر الإجبارية المفروضة على الجمهور!
لقد عانى هذا الأخير، ومنذ فترة طويلة، من تسلط الوسائل الإعلامية على حياته وتفاصيلها، فهي لم تعد تركز، ومنذ زمن طويل، على صناعة الأخبار السياسية والميدانية بشكل جيد، كما لم يعد هاجسها صناعة التقارير عن واقع السوريين في مخيمات اللجوء، أو في المنافي القريبة والبعيدة، بالطرق الاحترافية، وبالتأكيد، صار إلغاء مقالات الرأي أمراً معتاداً في عدد من المواقع الإخبارية، فلا أحد فيها تهمه الجدالات والسجالات حول القضايا الحامية!
لقد تحولت إلى وحوش مسعورة، تفترض وتحت إلحاح لهاث اللحاق بشبكات التواصل الاجتماعي، أن عليها سوق القراء أو المشاهدين أو المتابعين من رقابهم، إلى ساحات التفاعل معها!
ومن أجل هذا صارت تبحث عن غريب القصص، وأبشعها قبل أجملها، لتجذب الجمهور صوبها، باحثة عن أعلى نسب المشاهدات والتفاعلات، بعد أن انقلبت المقاييس، فتراجعت مطابقة المنتج الإعلامي لمعايير المهنة، كأساس للنجاح، وحل محلها إرضاء الجمهور بالأخبار التي تناسبه، فضلاً عن اعتماد العناوين المثيرة، حتى وإن كانت كاذبة، أساساً لتسويق المادة الصحفية!
محاولة لحاق الصحافة بمنتجات وظواهر وأدوات بث شبكات التواصل الاجتماعي، لم تنعكس عليها بشكل جيد إلا فيما ندر، ومعظم المحاولات الناجحة لمقاربة المنتجات الإعلامية بالشكل والإطار التسويقي للتواصل الاجتماعي انطلقت بالأصل من الحيثيات الإعلامية، وغيرت قليلاً في أدواتها، لكنها لم تلغ كينونتها، ولهذا (وعلى سبيل المثال أيضاً) ظل أحمد فاخوري مذيعاً صحفياً في برنامجه (بي بي سي تريندينغ)، ولم يقرر أن يصبح يوتيوبراً، بل ترك مثل هذا الخيار لمن هم فيه أصلاً، كما أن قلة من هؤلاء نجحت في استغلال الشاشة التلفزيونية، لتوسع شريحة مشاهديها، من اليوتيوب إلى التلفزيون!
ومن هذه العتبات الشائكة، تسربت على ما يبدو إلى مجتمعات السياسيين والصحفيين، المكورات العنقودية التي جعلتهم يظنون أن بإمكانهم قيادة الجمهور من خلال الظهور أمامه بالصوت والصورة!
وبدلاً من أن يلهبوا “جمهورهم” بالحماسة، أصيبوا جميعاً بالتهابات الظهور على الشاشة، والترائي النرجسي، وصار ظهورهم مرضياً، إن لم نقل إنه مرض يجب معالجة المشهد السوري منه، لا سيما وأن انسداد الآفاق السياسية، بالتوازي مع ثبات الجبهات طوال العام الماضي، مع تبعات توقف الحركة حول العالم بسبب وباء كورونا، قد جعل معظم من يظنون أنفسهم فاعلين في السياق، يبحثون عن آليات تعويضية، لغياب الفعالية!
ولنا أن نتخيل النتائج الكارثية للثرثرة اليومية، عبر برنامج زووم ومن خلال الصفحات الشخصية في فيس بوك وغيره، حين لا يتمتع أي من هؤلاء ببرنامج سياسي، أو قول مجتمعي، أو رؤية تكتيكية أو استراتيجية!
على الجمهور ذاته أن يوقف هذا الانحدار العجيب صوب العدمية والفراغ، فهو وحده من يستطيع ذلك فكيف عن متابعة أي من هؤلاء وغيرهم، طالما أن كل هذه الجرائم ترتكب، من أجله وباسمه كما يدعي أصحابها!
*تلفزيون سوريا