علي سفر: اللبنانيون والسوريون.. شركاء في ثورتين

0

كانت دمشق قد ذاقت طعم الربيع والأمل في الحرية بين العامين 2001 و2002، حينما عاد الأسد الابن، ليلبس وجه أبيه، وليبدأ بتسوية الأرض التي ظن مثقفو المدينة أنها ستحتضن بذار التغيير، فاعتَقل عدداً منهم، وأغلقت أجهزته الأمنية المنتديات التي نطقوا فيها كلمات استعصت على ألسنة السوريين أزود من ثلاثين عاماً، حكمهم فيها الصمت، والخوف! وعادت سماء الشام إلى تلبد غيمها، والانتظار المستدام للمستقبل المختلف!جزء كبير من حمولة التفكير بالتغيير في منتديات دمشق، جالَ وصالَ في صفحات الجرائد البيروتية. كما أن الاشتغال على فكرة الربيع المستلهمة من ربيع براغ 1968، كأيقونة للرغبة بالتحرر من الوصاية، وسيطرة الحزب الواحد على التفكير، وعلى السياسة، وعلى الفضاء العام، وتكريسها كصورة راسخة عن آمال الناس، إنما قد جاء عبر أقلام لبنانيين شاركوا السوريين هواجسهم وتطلعاتهم، كان أبرزهم الشهيد سمير قصير الذي قضى حقبة من عمله في ربط الحراك بين البلدين ومزجه على سكة واحدة تربط بين المدينتين، فكتب: “ربيع دمشق يبدأ من بيروت”!

ولعل مطالعة ما نشره الراحل في كتابه “ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان البحث عن ربيع دمشق” توضح كيف أن نظام الأسد برع في تضييع الفرص على شعبه، بالديموقراطية، وبالسلم الأهلي، وبالرخاء الاقتصادي، رغم كل الأصوات التي أطلقت الرسائل من بيان الـ99، إلى بيان لجان إحياء المجتمع المدني، وصولاً إلى عريضة الألف من أجل رفع حالة الطوارئ!صحيح أن سمير قد قتل في حزيران 2005، لكن ما تحدث به، بقي يتكرر، حتى انتهى النظام السوري بعد أقل من ست سنوات إلى المواجهة الدموية مع شعبه!

لكن لماذا نتذكر هذه التفاصيل ونحن في الذكرى الأولى لثورة اللبنانيين الراهنة؟ ثمة ثورة تسبق أخرى، يشعر بعدها أولئك الذين تراودهم الرغبة بالتحرر، ولم يتمكنوا من فعل نفس الشيء بالغيرة والحسد، لكنهم يتحينون الفرصة لفعل الأمر ذاته!

التفكير بالثورة، أو لنقل بالتمرد، يشبه الرغبة، بمعناها النفسي والسلوكي! وعلينا أن نرى كيف تلتصق على حدي طرفيها؛ تفاصيل المتعة والألم!

ثورة 2005 اللبنانية، التي حملت لبنان المحكوم من قبل “النظام الأمني اللبناني السوري المشترك”إلى حتفه، كانت تحمل داخل مضامينها لسكان الطرف الآخر في دمشق إشارات عن إمكانية التقاط رسالة الثورة، والمضي بالرغبات الكامنة والمدفونة بالقمع والاستبداد والتسلط نحو منصة الحرية! لكن بنسج بسيط على المثل الفرنسي الذي يقول “سنونوة واحدة لا تكفي لحلول الربيع”!، نقول: إن ثورة واحدة لا تكفي لقدوم الربيع!

لكن اندلاع ثورتين أو ثلاثة شهدتها المنطقة العربية في العام 2011 كان يكفي لأن ينطلق الحراك على طرفي سكة الحديد، فتشهد دمشق وخلفها سوريا كلها ثورتها الدامية، وتنطلق في بيروت ولشهور عديدة ثورة محدودة نوعاً ما، لكنها ستنادي وتصرخ بالشعار الأثير ذاته الذي لف المنطقة العربية كلها: “الشعب يريد إسقاط النظام”! مع ملاحظة أن الاستثناء اللبناني يعني إسقاط النظام الطائفي القائم منذ عقود، والمكرس باتفاق الطائف، الذي غطى جمر الحرب الأهلية بالرماد! 

وبينما كان الشعار في سوريا يعني إسقاط النظام القمعي الاستبدادي الذي تسبب بمآسي البلدين معاً، سنرى كيف أن الخدمات التي قدمها هذا النظام للأوليغارشية اللبنانية الحاكمة، سيتم ردها له في وقت أزمته المتصاعدة، لتقدم قوى سياسية وعسكرية المساعدة، فتنتقل عبر الحدود، لتساهم في قمع وقتل السوريين، ما كان يؤشر، أو لنقل يؤكد على أن العلاقة بين النظامين القائمين في البلدين تتخطى مسألة انسحاب الجيش السوري من لبنان في 2005، إذ أن ركائز نظام الوصاية بقيت، واستمرت بالتوازي مع الفصول الدموية التي شهدتها سوريا الثائرة، فكانت الخادم البارع، والشريك الصادق الوفي لنظام البراميل قاتل شعبه في الشام!

وكما فوّت هذا النظام على نفسه الفرص، سيستلهم النظام اللبناني تخبطاته، وسيبرع مع الوقت في تخريب الفرص وليس تفويتها فقط، فهو بكل واجهاته السياسية المكرسة، أسير بنيته الطائفية، ولا يستطيع أن يسود دون أن يستمر في نهبه لموارد الدولة، ولأموال اللبنانيين، الذين وصلوا إلى نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، إلى عتبة الفقر المؤكد!

ضمن هذا الفضاء، يصبح وضع الثورة اللبنانية، جزءاً من عملية التغيير العسير الذي يعيشه الشرق كله، مفهوماً وطبيعياً، سيما أن العام 2019 شهد، ومن دون اتفاق، موجة ثانية من الثورات امتدت من الجزائر إلى السودان فلبنان والعراق.

طزاجة المشاهد التي حملتها عدسات الكاميرات، والدفق العالي للأدرينالين، وقد تسرب عبر العيون المتقدة للشباب اللبناني في الساحات، وبنبض وطني يخترق الحالة الإسمنتية الصلبة للانقسام المجتمعي الطائفي، كانا يعيدان بناء التشكيل العام لتفكيرنا المضطرب، ويمضيان ملياً بإمكانية أن يصبح تيار التغيير في المنطقة عارماً حقاً، خاصة وأننا أصبنا باليأس والإحباط، بعد انقضاء المتعة سريعاً، ودوام الألم، بعد هذا العقد الأسود، الذي فاضت شوارع البلدان الثائرة فيه دماً وموتاً!

الوجه الآخر المختلف للوشائج بين السوريين واللبنانيين كشركاء في ثورتين، يجمعهما عمق الرغبة بالخلاص، بات له حضوره ورسوخه في ثورة 17 تشرين الأول. وبالمقاربة مع ثورة 2005، حينما تورمت علاقتهما في ذلك الوقت، بسبب خلط الأوراق الذي مارسه النظام السوري وشركاؤه المحليون آنذاك، عبر المماهاة بينه وبين الشعب، ما جعل الهجوم عليه إعلامياً يبدو وكأنه استهداف للسوريين بعامة!

هذا الوجه، أراد له الشباب الثائر، أن يكون النقيض، وأن يكون الأرضية لرفض السياسات العنصرية، التي كرسها وجوه العهد الحالي، عبر تحميل اللاجئين السوريين مسؤولية تردي الأوضاع العامة في البلاد! 

ومن خلال هؤلاء صار طرح القضايا الجذرية كشعارات أساسية في الحراك، مثل الطائفية والركود الاقتصادي والفساد المالي، والبطالة، يضع قضية اللجوء السوري إلى لبنان، في موضعها الذي تستحقه، دون مبالغات، وبلا استثمار سياسي لهذا الطرف أو ذاك.

لقد انتصر ثائرو المدن اللبنانية، للفقراء عابري الانتماءات من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، فلم يعد الحراك محمولاً على محليته، أو مقتصراً على الشعارات المطلبية، بل إن الشعارات الناضجة المطالبة بالتغيير الاجتماعي، كانت أوضح من أن يتم تغطيتها، عبر هذه الشاشة أو تلك، أو عبر محاولة تلك الطائفة أو تلك مصادرة الحراك، أو تجييره لصالح هذا الحزب أو ذاك!

لهذا كله، كانت ثورة 17 تشرين الأول، صعبة ومستحيلة، لكنها حصلت بجسارة، ورغم ما تخلل عامها الأول من وقائع دامية، إلا أنها ما برحت، تحمل فيضاً من الأمل، ليس لأصحابها فقط، بل لآخرين هنا وهناك، وفي مقدمتهم السوريون، فهم شركاء المأساة، يحملون في أناشيدهم وجوه وذاكرة التاريخ ذاته، في دروب آلامهم الطويلة.

*المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here