يكاد هذا العام أن ينتهي، ولا سيما في ساعاته الأخيرة، وقد دخل في مود “التكتكة”، وهذه الكلمة ليست نسبة لمفهوم التكتيك، أو الأهداف التكتيكية، وغير ذلك، بل إنها تنسيب مقترح لأسلوب تطبيق تيك توك TikTok الصيني، في تقديم المحتوى للمتابعين، المرتبط بالأصل بصُناعه، الذين أتوا إليه مسرعين، هرباً من سلسلة طويلة من قواعد السلوك المفروضة في التطبيقات الأخرى، وفي شبكات التواصل الاجتماعي المشابهة، كيوتيوب وغيره.
النشر دون الالتزام بالضوابط الأخلاقية، قد لا يبدو أمراً ممكناً لنُخب صناع الأفلام الشخصية، فقد تقولبت العقول منذ زمن طويل على أن تضع حداً أدنى سلوكياً وأخلاقياً، لا يمكن الهبوط تحته، وإلا انحدر خطابها نحو السوقية، وصار مكانه في الفضاء غير مرحب به اجتماعياً، وربما يكون قد أمسى جزءاً من ثقافة القاع، حيث تكون الإباحة هي القاعدة، حتى وإن خرجت سلوكياتها عن المفهوم والمتوقع!
في تيك توك الجذاب للاشتراك والمشاهدة، ثمة انتحاء يشبه هذا، قوامه أن صانع المحتوى يستطيع قول أي شيء وتصوير كل شيء، دون أن تخالجه أي نبضات للنواميس المتعارف عليها بين سكان المعمورة، فإذا كان ما يهلع له قلب المؤمنين بالأديان السماوية، هي تلك المشاهد الإباحية، وتلك العبارات البذيئة، التي سنراها في فيديوهات الشباب الذين يبحثون عن الشهرة والربح المادي، عبر جلب المعلنين إلى قنواتهم، وحصولهم على الهدايا المادية، وفق آليات عمل التطبيق، فإن للفئات الأخرى من مجتمعات الشعوب الأخرى، ضوابطها الأخلاقية والسلوكية غير الدينية، وهي تتعرض للنقض عبر السماح وعدم المنع أو التبليغ عليها، الأمر الذي يجعل فضاء التطبيق أشبه بقطعة من الانترنت المظلم طفت على السطح وصارت متاحة للجميع!
هذا ما أتى به واحد من أبرز تطبيقات التواصل على المستوى العالمي، ويكاد سكان الكوكب يهجرون تلك المواقع التي مازال لديها قليل من القواعد والموانع، نحو الفضاء المنفلت، وربما من هذه الزاوية سنفهم المفارقة التي حصلت، بعد أن حاول إيلون ماسك تطبيق موانعه في تويتر، فوجد معارضة هائلة، تستند إلى حقائق باتت راسخة، تقول بأن العالم الذي يتواجد فيه تطبيق تيك توك، لا يمكن أن يقبل بقيود جديدة على تويتر، وهذا ما وضع إمكانيات الهجرة صوب تطبيقات أخرى أمراً ممكناً، فيما لو استمرت سياسات المالك الجديد للعصفور الأزرق!
لكن، بعيداً عن الحروب الواقعة في سياق الفضاء الافتراضي، لو قدر لنا أن نبحث في تأثير متبادل بين الواقعي والافتراضي، ألا نجد أن السياسة الدولية، وطرق تعاطي القادة مع مصالحهم، ومصالح غيرهم، ومع القواعد السياسية التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية، وثبتت في مواثيق الأمم المتحدة، قد تحولت إلى أفلام سوقية على هذا التطبيق، وربما ستتجه التطبيقات الأخرى إلى غض النظر عنها في السنوات القادمة؟!
بذريعة أو بغيرها، بقواعد وبدونها، بأخلاق وبلا أخلاق، وجدنا أنفسنا نغوص في أحداث هذه السنة الآفلة، وكأنها أفلام تيكتوكية، بداية من الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية، مروراً بالمناوشات بين الكوريتين، وصولاً إلى التهديدات الصينية لتايوان، إضافة إلى أحداث ووقائع لفت الكوكب كله، وانتهت بنا إلى تفجر عجيب للمكنونات العنصرية لدى تيارات كبيرة في المجتمعات الأوروبية، تجاه الآخر العربي المسلم، الذي يأتي إلى دولها لاجئاً، وذنبه الوحيد، هو تجرؤه على تنفيذ حلم الانتماء إلى سياق عالمي كمونديال كرة القدم، دون أخطاء تذكر!
وفقاً لإمكانيات الغوص أكثر في أوحال “التكتكة”، يمكن ومن أجل الربح السياسي، أن يتعرى حزب سياسي، ويمكن أن ينطق قادة ادعوا الأخلاق ذات يوم بأبشع العبارات، ويمكن أيضاً أن تكوّع دول معتبرة نحو ما كانت تدعي عكسه!
وكذلك يمكن الجهر بالأفكار القبيحة، والمسفة في قباحتها، في أرقى المنتديات العالمية، وحتى على المستوى الداخلي، في هذه البقعة المضطربة أو تلك، يمكن للمتحاربين أن يناموا مع أعدائهم، علناً، ودون خجل، وبلا خوف من أن تصم الآذان أصوات التأوهات والمداعبات، فالتبريرات حاضرة، وليس لدى عقول العامة، وحتى النخب من موانع تجعلها لا تتقبل حصول هذا كله، أو ترى أن هناك انحدار بدرجة زاوية حادة صوب الهاوية الأخلاقية بعد السياسية!
ملامح العام الجديد، وعلى كافة المستويات تبدو موغلة في اللجوء إلى تيكتوك، وحتى إن سمعنا اعتراضاً هنا، أو ممانعة هناك، سيذهب الجميع لحضور فيلمه الخاص، فاستعدوا للتعري والهاوية.
*المدن