يلجأ الباحث والصحافي السوري، غيث حمّور، في كتابه “ثقافة الهيمنة في ظل الأنظمة الشمولية… السينما السورية بعد 2011 نموذجاً”، الصادر حديثاً عن دار نون 4، إلى وضع أرضية نظرية متماسكة، لقراءة السياق العام، الذي فرضه نظام “البعث” تاريخياً على “صناعة” الثقافة، بعد العام 1963.
وهو في سبيل هذا، يجعل من الشغل النظري في طبيعة الاستبداد لمفكرين مؤثرين على مستوى العالم، مثل غرامشي وهوركهايمر وأدورنو وغيرهم، أساساً لقراءة المحصلة التي انتهت إليها السينما السورية بعد العام 2011، حيث ظهر وبشكل جلي أن منظور النظام للأدوات الثقافية العامة لا يتعدى “الغرضية”، أي قدرتها على تجميل صورته دائماً، وتجندها من أجل الدفاع عنه، حين يتعرّض للأخطار، وتقديم روايته للأحداث، وقبل ذلك، إمكانات الفاعلين العاملين في مؤسساتها، العمل ضمن الماكينة القمعية الهائلة التي يمتلكها.
يوجه حمّور مجسات القراءة، صوب المنتجات السينمائية الحاصلة بعد قيام الثورة، لا ليحللها كأفلام ذات بنى فنية متماسكة، بل كوثائق تدلل على آليات الهيمنة!
البحث الذي يقدمه حمور، للقارئ السوري أولاً، وللمهتمين من المثقفين والباحثين العرب والأجانب، هو دراسة أكاديمة قدمها في إحدى الجامعات التركية، بإشراف علمي من قبل للدكتور تولغا هيبدينكلر. وهو بحسب تحديد الأهداف: “يركز… على فكرة دور الحكومة في الثقافة بشكل عام والسينما بشكل خاص. كما يسلّط الضوء على استخدام السينما لخدمة أيديولوجية، وكذلك استغلال السينما لفرض السيطرة. كما يركز البحث على السينما والوصاية الحكومية، خصوصاً بعد العام 2011 في سوريا”.
ومن هذا المنطلق سيحدد في متن البحث، ملامح الدور الذي قامت به، ومازالت، المؤسسة العامة للسينما، بوصفها الأداة الحكومية لفرض سياستها في قطاع الترفيه السينمائي، فهي بحسب حمّور “تموّل فقط المخرجين الموالين لحملهم على الانصياع لمطالب النظام، ونتيجة لذلك أحكمت قبضتها على الخطاب السينمائي في البلاد من خلال هذه الأساليب”.
وهنا لن يعجز الباحث عن شرح مفردات هذا التفصيل، وذلك في صلب مادة دراسته، حين يبحث في أدوار الفاعلين، فيذكر أنه بين العامين 2011 و2022، أنتجت الحكومة السورية، ممثلة بمؤسسة السينما، حوالى 20 فيلماً، بينها 10 أفلام، مع ثلاثة صانعي أفلام فقط، يتناوبون على إخراجها. ارتقى المخرجون الثلاثة إلى قمة المجتمع السوري، وكان أحدهم نائب رئيس مجلس النواب!
كيفية تأسيس النظام لهذا الأسلوب، في قيادة المشهد الفني عموماً، والسينمائي خصوصاً، اقتضى من الباحث القيام باستعادة خلفيات الواقع السوري السياسية، وبما يخدم غايات الدراسة، ويؤسس لتبيُّن، كيف وصل الحال إلى هذه العتبة، من الانسحاق تحت وطأة إملاءات النظام، وكان لا بد من إلقاء نظرة على آليات تشريع السيطرة قانونياً، والتفكير في القوانين التي تم فرضها لصالح التحكم الكامل، ليس فقط بصناعة الأفلام السورية، بل أيضاً بطبيعة الأفلام، التي يمكن للجمهور مشاهدتها في الصالات، التي تعرضت للتدمير الاقتصادي أيضاً، بسبب ما فرض عليها من سياسات.
لكن تحليل الأفلام يعمق التفكير في الواقع، وفي البنية النفسية والعقلية التي يمضي بها، من يصطفون وراء هراوات القمع الجبارة. وفي هذا المنحى وعبر تحليل فيلم “مطر حمص” (2017) للمخرج جود سعيد، والذي لا تُخفى نزعته الطائفية في تحليل الحدث السوري، فإن الباحث يرى أن “الصورة الأوسع من حكاية الفيلم تبرئ النظام بالكامل من المآل المدمر للمدينة والناس، وتختصر المعارضة والثورة في كونها مليشيات مسلحة أو جماعات إرهابية أدوات للخراب. ومع كون الفيلم منتجاً تحت يافطة النظام، الممثل في وزارة الثقافة ومؤسسة السينما، فمن الصعب التعامل معه خارج سياق الدعاية والبروباغندا، مثلما كانت أفلام ليني ريڤنستال في عصر هتلر تماماً”.
وقد فعل المخرج نجدت أنزور الأمر ذاته، في فيلمه “رد القضاء” حين “رسم… قوات الجيش السوري على أنها الأكثر براءة من خلال مشاهد الفيلم التي امتلأت بالسيارات المفخخة من قبل “الإرهابيين” (…) ولم يأت بدوره على ذكر أي انتهاكات من التي طاولت المدنيين في مدينة حلب وريفها”!
النتائج التي يخرج بها البحث عن واقع السينما السورية، خلال فترة حكم النظام المستمرة حتى اليوم، لا تأتي بجديد فعلي، لكنها ومن خلال الربط مع المقدمات، توضح كيف أن واقع حال صناعة الأفلام بذاته متأزم ومختل، ومن دون أن يتم التعاطي معه نقدياً من وجهات نظر “معادية”، ولا يمكن أن ينتج قيماً فنية مختلفة، فهو بمرتبط بشكل كامل بالأجهزة الأمنية التي تدير كل شيء في البلاد عبر واجهات كوزارة الثقافة ومؤسسة السينما وغيرها. وهذا التأكيد الذي يقدمه غيث حمور، لمن يبتغي معرفة واقع حال السينما السورية، مهم جداً، كونه يشتغل على الموضوع من خلال معيارية فكرية، لا يمكن للمدافعين عن النظام اعتبارها غير محايدة، فهي تحلّل نماذج التسلّط من خلال دوافعها وتكويناتها، بمعزل عمن يلبس وجوهها.
الشهادات التي يوردها الباحث لشخصيات قام بالاستماع لها، لن تخرج عن السياق، بل ستروي تفاصيل واقعية، عما جرى ويجري على الأرض. غير أن ما كان يستحق أن يولى مساحة إضافية في البحث، هي العلاقة بين السياسة والفن في سوريا، في المراحل السابقة لوصول “البعث” إلى السلطة، وأيضاً فترة الستينيات التي مر عليها بسرعة رغم أهميتها في قراءة خلفية الموضوع، لا سيما الفترة الممتدة بين العامين 1963، أي العام الذي صدر فيه القرار بإنشاء المؤسسة العامة للسينما، و1970، حينما استولى الأسد الأب على مقاليد الحكم، وبدأ بعدها بعملية تطهير لكافة المؤسسات، أبعد من خلالها أصحاب وجهات النظر المخالفة لتوجهاته، حتى في أقل مناحي الإدارة.
غير أن هذا لا يلغي أهمية طرح دراسة الواقع الجزئي، أو تعريض قطعة من المشهد للتحليل الدقيق أكاديمياً، خصوصاً أن هذا الحقل الأكاديمي، بقي كثيراً مادة راهنة لدى الدارسين الغربيين، ولم يتحول إلى مادة علمية بحثية رائجة بين السوريين أنفسهم.
(*) ثقافة الهيمنة في ظل الأنظمة الشمولية السينما السورية بعد 2011 نموذجاً
طبعة أولى- 2023، دار نون4 حلب- غازي عينتاب.
(*)المدن