علي سفر: السينما السورية تتسوّل النجاة من طهران

0

في سبيل تطوير صناعة السينما محلياً، تريد مؤسسات النظام السوري، وعلى رأسها وزارة الثقافة، إقناع السوريين بأنها مضطرة للاستعانة بجهة وحيدة هي إيران، مع ضخ تسويقي يوحي بأن هذا الفن هو خلق مرتبط بالنظام البعثي، الذي أنشأ المؤسسة العامة للسينما في العام 1963.

عاش هذا القطاع المهني تاريخياً معادلة غرائبية، مبنية على عنصرين إنتاجيين فاعلين. الأول، هو القطاع العام الذي يقوم بإنتاج أفلام “ملتزمة” و”رصينة”! لا تأتي الأفلام فقط من جهة المؤسسة العامة، بوصفها الجهة الإنتاجية الأكبر، بل تأتي أيضاً، كما كان يفترض، من التلفزيون السوري الذي كانت لديه وحدة إنتاج تم تدميرها في الفناء الخلفي للمبنى، بعدما نال منها الإهمال وانتهى الحال بمقرها بأن هُدم لصالح توسيع أقسام أخرى، وجرى إتلاف آلاف الأشرطة السالب التي كانت في مستودعها ولم تُستخدم.

من الضروري الإشارة إلى أن نقابة الفنانين السورية حاولت الخوض في ميدان الإنتاج السينمائي، فصنعت فيلما وحيداً هو “المطلوب رجل واحد” الذي أخرجه المخرج اللبناني الراحل جورج نصر في العام 1973، ثم انسحبت، لتكتفي بدورها الراهن في تحصيل الضرائب، ودفع التقاعد، وملاحقة الراقصات ومطربات ومطربي الملاهي الليلية، لجباية الرسوم، وهندسة الأغاني لفظياً، كي لا تخدش الحياء العام للسكارى في آخر الليل!

وتبقى جهة رسمية أخرى خاضت في هذا المجال أيضاً، هي الإدارة السياسية التابعة للجيش والقوات المسلحة، التي تحتوي قسماً سينمائياً خاصاً بتصوير منجزات الرئيس والمشاريع التكتيكية للوحدات العسكرية.

أما العنصر الثاني في المعادلة فهو القطاع الخاص، الذي وُصم بصفة “التجاري”، وكانت أفلامه تأتي من خلال شركات خاصة متعددة الهوى والمشارب، كشركة “سيريا فيلم” التي بدأت منذ بدايات عقد الستينيات بالإنتاج، وشركة تحسين قوادري التي ظهرت أفلامها في منتصف العقد ذاته، وشركة الغانم للسينما التي ظهرت في الخريطة في المرحلة ذاتها، وأيضاً مع المنتج الأبرز الراحل، نادر الأتاسي، الذي ظهّر تجربة الرحابنة في الشاشة الكبيرة، منذ منتصف الستينيات، وأنتج لدريد لحام أعمالاً مهمة ورصينة.

وبالإضافة إلى هؤلاء ثمة شركات أخرى(*) دخلت المجال وغادرته، لا سيما تلك التي ارتبطت بأسماء أصحابها من الممثلين، كشركة الممثل الراحل زياد مولوي وغيره.

بدأت السينما في سوريا حرة، أي أنها خرجت من عقول الهواة الذين صنعوا أول أفلامها في العام 1928، وواجهوا سلطة الانتداب التي خشيت أن يتسبب لها هؤلاء وغيرهم بمشاكل إضافية مع وجهاء المجتمع التقليديين، من رجال دين ومخاتير وغيرهم، فتشددت في رقابة المُنتَج المحلي. لكن الشرط الاقتصادي، وقيام البنية الإدارية والإنتاجية والمالية لهذه الصناعة، تأخر كثيراً أيضاً. وغالباً ما كانت التجارب تفشل، أو تنجح ثم تفشل وتتوقف، من دون أن تقوم مؤسسات الدولة في تلك المرحلة الليبرالية اقتصادياً، بدعمها، فيما كانت تدعم قطاعات صناعية تقليدية أخرى.

السياسي السوري خالد العظم، صاحب التجربة الاقتصادية والإدارية المكرسة، كان يرفض أن تتدخل الدولة في دعم السينما، ربما لأنه كان يعرف أن هذه الصناعة ذات الطابع التواصلي مع الجمهور، ستكون مطمعاً للقوى السياسية. لهذا أراد لها أن تبقى بعيدة من السيطرات، وفي الوقت نفسه لا بد من أن تُترك تخوض تجربتها كي يكون نجاحها أو فشلها مرتبطاً بقوانينها الداخلية وآليات تسويقها نفسها، خصوصاً أنها ترتبط بوجود صالات العرض التي كان الاستثمار فيها عملاً مغرياً طيلة عقود.

لماذا نتذكر هذا بينما نتحدث عن الواقع الحالي، تحت عنوان راهن؟

نفعل هذا لأن الوقائع التي أدت إلى دمار التجربة السينمائية السورية، لا تتعلق فقط بوجود الدعم من قبل الدولة أو المؤسسات التمويلية المحلية أو العربية والدولية. بل تبدأ من أعماق عقل السلطة، حيث لا بد من الإحاطة الحديدية بكل شيء، من أصغر خبر ينشر في الصحف المحلية، أو في بريد القراء، إلى أكبر ما يمكن أن يصنع في مؤسسات الدولة.

ومن أجل استكمال التحكم في أولئك الذين عملوا كقطاع خاص في صناعة السينما، كان لا بد من وضع مصيرهم في يد القطاع الآخر، الذي يمثل الدولة، وإضفاء صفة “التجاري” للتشكيك في طبيعة ما يقدمونه. فالتاجر لا يريد سوى الربح، أي أنه بلا غايات سامية! وهل ثمة أبرع من السلطة في إلصاق هذه الصفة بجهة ما، في مجتمع يعيش واقعاً تحكمه الأحزاب الأيديولوجية من قومية ويسارية ودينية، تبيع الجمهور في كل خطاب أو صفحة من أدبياتها، الغايات المتعالية عن الشؤون الدنيوية التافهة، كالضحك والترفيه؟!

لم يكن نتاج القطاع الخاص مهماً، وفق تقييم النقاد، الذين ينظرون له وفق تراكم المعايير النقدية في الزمن الحالي. لكنه لم يكن دائماً ذا سوية متدنية، أو بعيد من القضايا الكبرى، لا سيما أن عدداً من كوادر المؤسسة العامة للسينما عملوا في القطاع الخاص، كالمخرجين الراحلين محمد شاهين ونبيل المالح وغيرهما. كما أن النظرة المتزامنة التي تضعه ضمن خريطة ما كان ينتج في وقته، لن تجده مغايراً عما أنتج في بلدان أخرى، لا بل إن الإنتاجات المشتركة بين البلدان الثلاثة سوريا ولبنان ومصر، كانت تتبع مزاجاً عاماً.

وبعد عشرات السنين من فرض القوانين والمراسيم التي حطمت الاقتصاد السوري كله، وليس صناعة السينما الوليدة فقط، اكتشف السوريون أنه، وفي سنوات الحرب، تجاوز سقف إنتاج الأفلام التي تقدم سردية النظام ضد الثورة وضد الفصائل المسلحة، الأرقام المعروفة عن العدد السنوي المعتاد. وأن ما كان يتم الحديث عنه من عقبات قائمة في وجه الإنتاج، لم يكن سوى سياسة متبعة لإبقاء الحال على ما هو عليه، في ظل انعدام أفق تطور الصناعة محلياً، بالتوازي مع الانهيار المتتالي لصالات العرض في المدن السورية كافة.

مثل هذه الحال، تدفع غير العارفين إلى الظن بأن وزارة الثقافة ستجد حبل النجاة في ما وقّعته من اتفاقيات مع الإيرانيين. لكن الحقيقة، التي ربما ستصل الجميع لاحقاً، تقول بأن الثقافة التي تعاني سيطرة الجهلاء والمخبرين، لن تنقذها المليشيات الثقافية الطائفية الآتية من إيران!
_____________

(*) أفلام فايز سلكا، أفلام محمد فاروق، زنوبيا فيلم، شركة الزوزو للسينما، طارق فيلم، أفلام سمير عنيني، سيريا فيلم، أفلام فتنة واغراء، شركة حرمون للإنتاج السينمائي، هيليوس فيلم، شركة عرفان وجالق للإنتاج السينمائي، أفلام بهجت المصري، أفلام أحمد أبو سعدة، شركة النجم للإنتاج السينمائي، شركة الفرسان للإنتاج السينمائي، أفلام خالد الغزي، شام فيلم، سميراميس فيلم، أفلام قبلاوي وزلطة، أفلام محمد السردار، أفلام طيارة واكتع، ماسترز للإنتاج، الدولية للإنتاج، علاء الدين للإنتاج، جامب للإنتاج، الشام الدولية للإنتاج، ملكاني للإنتاج.. إلخ.

*المدن