مع قلة نتاجات السينما الروائية السورية التي تعارض في خطابها ومضامينها نظام الأسد، تصبح مشاهدة التجارب التي ينتجها مخرجون مغامرون مسألة مهمة!
فبينما تحتل المؤسسة العامة للسينما (المؤسسة الوحيدة المتخصصة في سوريا) الحيز الأكبر في عدد الأفلام الروائية التي تم أُنتجتْ طيلة العقد السابق، يمكن وببساطة شطب التركيز على العدد هنا، والالتفات صوب المضمون، الذي يتوجه إلى جمهور، يظن منتجو هذه السينما أن تلقيه وترحيبه بما يقدمون أمراً محسوماً، فهو الجمهور الذي بقي في البلد، والذي (كما يظنون) يؤيد سياسة النظام، ويحتاج إلى حكايات مصورة، تشد من أزره وتعاضد صموده!
تبعاً لهذه الطمأنينة، سيكون مجال السينما الروائية السورية مفتوحاً على مصراعيه أمام الحشو والتجييش ضد “الإرهابيين”، على يد مخرج مرتزق كنجدت أنزور، وأفلام التلاعب بالحقائق والسرديات التي برع فيها جود سعيد، وأيضاً تبسيط الوعي وإلصاق جرائم التاريخ والواقع الفادح بالريفيين، وجعلهم مطية عمياء لا يفرق بين الخير والشر بحجة الطيبة كما يفعل عبد اللطيف عبد الحميد، والاحتيال على المشاهدين، عبر سلب المعارضين المنفيين روح ثورتهم، وإنكارها، وتشويه صورتها، وتوصيفها على أنها ثورة إرهابيين، كما في الأفلام التي قدمها محمد عبد العزيز.
ووفقاً، لهذا المرور السريع المستخلص من عدد غير قليل من الأفلام التي أتاحها القائمون على المؤسسة في غير مناسبة عبر موقع يوتيوب وغيره، لا يمكن لأي قارئ/ مشاهد يتمتع بأبسط آليات التحليل النقدي، أو المقارن، أن يجزم بوجود سينما ينتجها النظام ذات خطاب رصين أو راسخ يستحق النظر فيه.
مقابل هذه البؤرة الإنتاجية، ثمة أخرى، معارضة، تمتلك من مقومات الحرية الفكرية الكثير، نرى أن بعض المخرجين السوريين المعارضين قد ركزوا فيها عملهم صوب تتبع الواقع، فذهبوا بعيداً جداً في أشواط الفيلم الوثائقي.
لكن الحالات القليلة من أعمالهم لجهة الفيلم الروائي، لا بد ستلفت الانتباه، فهي تأتي على هامش التركيز الكبير على رصد الكاميرات التوثيقية لمراحل المأساة، وهي أيضاً لا بد ستختار مواضيع وخطابات غير متاحة سابقاً في الفيلموغرافيا السورية العامة.
وربما مئات الآلاف من الأشخاص الذين قضوا وقتاً او ردحاً من حياتهم في سجون نظام الأسد، قوامها، أن يصادفوا في لحظة ما أحد سجانيهم ممن قاموا بتعذيبهم أمامهم، في فضاء بعيد عن السجن أو المعتقل!
التصريح بحدوث مثل هذا اللقاء، كان يستدعي خفقاً سريعاً في قلوب من يسمعون القصة وهي تروى أو يتم التحدث عنها، كما فعل المحامي أنور البني عندما روى حادثة لقائه مع سجانه الضابط أنور رسلان (تتم محاكمته أمام محكمة غوبلنز) في ألمانيا، إذ سرعان ما سيتوجه المتلقي إلى التفكير بردة فعل الضحية، وهي تواجه من أودى بها إلى مصير مؤلم، فهل سوف تذهب إلى أذيته فوراً في لحظة فوران الدم؟! أم أنها ستتبع أسلوباً آخر لمعاقبته؟
قصة البني تمضي كما نعرف في الأسلوب القانوني، والذي يتابع تفاصيله السوريون كلهم، مع وقائع المحكمة الأولى حول العالم، التي تحاكم منتهكي حقوق الإنسان في سوريا.
لكن قصة لقاء الكاتب والمعتقل السابق محمد برو، في سجن تدمر الرهيب، مع سجانه في أحد الشوارع، والتي تحدث عنها في برنامج “يا حرية” الذي بثه تلفزيون سوريا، ورغم ما خلفت لديه من أسى توازى ألمها مع ما يرشح من ذاكرته السجنية، إلا إنها عبرتْ دون فعل من الضحية تجاه جلادها، تاركة فوق رأس المشاهد هالة كبيرة من علامات الاستفهام، عما يمكن أن يحدث حين يتكرر الأمر مع آخرين!
هنا، يحاول إياس أن يقدم مقترحه للإجابة في فيلمه الروائي القصير، عبر لقاء الشاب راكان (سجين سابق في أحد أقبية فرع المخابرات الجوية) مع السجان المساعد حسن أبو جعفر، في لحظة حساسة، وفي مكان غريب، هو انتظار المُهرب كي ينقلهما إلى بريطانيا، عبر نفق المانش.
تأسيس المواجهة بين الاثنين، في لحظة البحث عن نجاة، يضعهما في البداية على قدم المساواة، فكلاهما قاب قوسين أو أدنى من مصير غير مضمون، لا أحد يعرف إن كانا سوف يصلان إلى مبتغاهما، أم أنهما سوف ينتهيان كضحايا لعصابات التهريب التي خدعت كثيرين، ولم ينج من براثنها أحد، سوى المحظوظين.
في مثل هذه اللحظة المتخمة بالترقب، يجعل إياس المقداد بطليه، يتواجهان، داخلياً، في لحظة هلع، قد لا يدركها سريعاً المشاهد غير الملم بالشأن السوري، لكن السوريين والعارفين بأحوالهم، سيعرفون منذ النظرات الأولى التي تبادلها كل من راكان وحسن أبو جعفر أن بينهما مواجهة، فهما ينتميان إلى بلد الشقاق بين أفراده راهن وصاخب، لكن لمعة مختلفة، ستجعلهما يصدمان المشاهدين، في الانتماء إلى حيز مؤلمٍ، معتمٍ وقاسٍ، هو عالم الأقبية، زنازين الأجهزة الأمنية السورية، التي يمتلك الجلادون فيها إيقاع الحياة، وتكسر أنفاس من يقتلونهم تحت التعذيب!
ينحاز المقداد وكما هو واضح إلى الضحايا، فهو يضع راكان وبشكل نهائي في صف الناجين، الذين لا يريدون أن يصابوا بالوحشية، في التعاطي مع المجرمين الذي آذوهم في ما مضى.
لكنه، في المقابل، يختار أيضاً الانحياز إلى رؤية الجلاد في لحظة ضعف بوصفه ضحية نفسه، فيجعله يتخيل الآخر، في ذات الموقع الذي كان يشغله في وقت سابق، أي ذروة التمكن، والقدرة على تحديد مصائر البؤساء الذين وقعوا تحت يديه!
غير أن هذا التداعي السريع الذي بني كحلم أو هذيان بسبب الحمى، وكما يفترضُ كلٌ من منطق الأشياء، والتكوين النفسي للقتلة ضمن تسلسل وظيفي صارم، لا يكفي لأن يحدث تطهير ما من أحمال الذنوب، لدى المذنب، الذي ارتكب جرائمه عبر صناعة الأذى الذي يصل إلى الموت على أجساد المعتقلين، حتى وإن تم سوق مبررات هروب الشخصية، كغضب السلطة الأعلى عليها، بسبب ارتكابها لخطأ ما غير مسموح به.
لكن الأداء المهم لمحمد آل رشي، بشخصية حسن أبو جعفر، كذلك الديناميكية التي تميز بها عيسى حنا في شخصية راكان، وقد ظهرا كلاعبين مسرحيين في فضاء العتمة، ولاسيما في مشاهد التعذيب المتخيلة، قادا المتلقي إلى الالتفات صوب الفكرة المحتملة، وركزا نبض الفيلم الروائي القصير في جعل الأمر وارداً، وبما يقتضي أن يستعد له السوري الهارب من جحيم النظام، إذ يمكن وببساطة أن يصادفه في مكان ما، ذلك المؤيد الذي هرب من جحيمه الخاص، مفترضاً أنه يمكن أن ينجوا في حال استعار رواية ضحاياه!
الموقف الخاص هنا، هو ذروة تنتمي إلى سياق خطر، ولاسيما الجزء الخاص بتحليل شخصية الجلاد، إذ فُرض على السوريين، أن يقوموا بمقاربات واسعة مع تجارب الآخرين، حيث تكرر كثيراً الحديث عن تحليل حنة أرندت الشهير لشخصية مجرم الحرب النازي أدولف أيخمان، حينما رأت فيه وبعد التحليل النفسي لشخصيته، مجرد موظف تفانى في عمله، فقتل ملايين اليهود كما تروي وثائق اتهامه.
لكن بعض الانتقادات لهذه الرؤية، تناولت الأمر من زاوية أن التركيز على الطبيعة الشخصية، وتكوينها النفسي، سيجعلنا نتناسى حجم أفعالها وكارثيتها.
ومن هذه العتبة، فإن تقديم شخصية الجلاد في فيلم “الحظيرة”، كتكوين نفسي غير بسيط، وغير معقد في آنٍ معاً، ربما هو إحالة إلى مشهدية سورية مستقرة، نشأت من محض ولادة أجيال كاملة تحت سلطة القمع والإرهاب النفسي ذاته، وتغذت من معين الاستهانة بالكائن البشري، ما يعني أن تبادل الأدوار بين الجلاد والضحية ممكن، وربما حدث ويحدث في كافة الأصقاع السورية الراهنة.
*المدن