لم أعد أتذكر كم مرة كتبتُ عن الموت.
كانت الكتابة عن الموت قبل الثورة مرتبطة برثاء الأصدقاء الذين يرحلون مثل كل الناس في كافة أصقاع الأرض؛ المرض، الحوادث، الانتحار!
لقد شكل هذا الحدث الإنساني بوصفه غياباً فرصةً لإعادة تشكيل السيرة الذاتية، من خلال تَذكر وقائع وتفاصيل الشخصية، التي يبذل في رثائها أطيب الكلام.
ولا بأس من وضع هذا الرحيل في سياق مأساة مستمرة قوامها التفكير بأن كل شيء جيد يضمحل ويختفي في بلد مثل سوريا، لا بل إننا لا نستطيع أن نعزل اندثار أي أحد وأياً كان شكل موته عن التفكير بأن خنق السوريين عبر قمعهم وإفقارهم وتدمير فضاءات معيشتهم، إنما هو أول الأسباب التي تجعل من هذه النهاية المفجعة سليلةً لكارثة مستمرة منذ عقود هي نظام الأسد الديكتاتوري.
ضمن هذا السياق لم يكن هلاك الأصدقاء أو الرفاق في المعتقل غريباً عنهم السوريين آنذاك، فكم من صديق قضى في أقبية الفروع الأمنية، أو في السجون دون أن يتمكن أحد من رفاقه أو من أصدقائه أو أهله من الكتابة عنه خشية أن يلقى مصيره!
وأيضاً كان بلوغ المنفيين الأجل في منافيهم، بعيداً عن أهاليهم وأمكنتهم وأحبابهم وأصدقائهم، هو الحجر الباقي ليكتمل جدار اليأس المطبق في هذه البلاد!
كانت فكرة الخروج من سوريا عزيزة وثمينة، فالقيام بها كان يعني أن ثمة من سينجو من حبل المشنقة ومن اليوميات السورية الشاقة!
حيث سيجد حياةً مختلفة هناك خلف الحدود، في البلاد الحرة، التي لا يُعتقل فيها المرء إن عارض حاكم بلده أو رفض سياسة الحزب الحاكم!
لقد بدت البلاد التي لا يرتعب الإنسان فيها من رؤية رجل الأمن، ولا يستدعى فيها إلى أبنية المخابرات! جنة أرضية، ويوتوبيا!
ولكن ثمة من وافته المنية في هذه الفراديس، وكان سبب الموت الذي يغلف كل الأمراض القاتلة هو القهر، نعم، لقد قتل القهر السوريين في المنافي!
وقتلهم أيضاً خوفهم من أن يُهال على نعوشهم ترابٌ لا يشبه تراب بلدهم ولا يحمل رائحته! وكذلك قتلهم خوفهم من أن تُنصب فوق قبورهم شواهد لا يقرأها أحد. يمر بها غرباء يلفت انتباههم فيها تعرجات الحروف التي كتبت عليها، فيأنسون لتشكيلها دون أن يدروا ما وراء رسمها الجميل من بلاد محترقة، ترتسم بلا حياة.
لم أعد أتذكر كم مرة تخيلت أنني ميتٌ بطلقة في الرأس، أو مصاب بطلقة في الصدر، يحملني شباب ثائرون محاولين إسعافي بينما يطلب مني أحدهم بأن أتشهد!
أو أنني قد اعتقلت على حاجز أمني في الشام، وأنني سقطت ميتاً منذ جلسة التحقيق الأولى، وأنني في الأوقات التالية لم أعد سوى صورة ورقم، مثل كل الصور التي نجا بها “قيصر”، وربما حدث هذا بعد خروجه، فأمسيت مجرد احتمال ضائع بين السلب والإيجاب إلى أن ينتهي حالي بقيد مرقنٍ في سجل النفوس؛ لقد مات بنوبة قلبية!
كتبتُ كثيراً عن موتى الدروب، عن شباب يقتلهم رصاص حرس الحدود التركية، أو يقتلهم البرد وهم تائهون بين الأودية والتلال على الحدود بين سوريا ولبنان، وآخرين غرقوا في البحار الدموية وهم يحاولون النجاة!
كتبتُ وبكيتُ على شباب ماتوا تحت راية نقية ضد نظام البراميل، وعن آخرين رفضوا أن تكون ثورتهم طائفية أو متطرفة وإرهابية فقُتلوا على يد داعش وأشباهها!
كان جاك دريدا قد قال قبل شهور من موته: “الفلسفة هي أساساً أن نتعلم الموت” ثم أردف في نفس الحوار: “الموت هو ما لا يقدر المرء أن يتعلمه”!
ولكننا لم نتعلم بالمطلق كيف ننجو من السبل المؤدية إلى الحتف! فلم تساعدنا الفلسفة على ذلك، ولم يحاول العالم فعلياً أن يدفعنا إلى ضفاف النجاة.
وفي المحصلة من منا تعلم شيئاً عما يكونه الموت؟
دعونا نقصّر بساط قولنا، ولنبتعد عن الكُنه الفلسفي لفكرة الموت، ولنبق في الحيثيات البسيطة التي تجمعنا مع ابن الشارع وعموم البسطاء، ولنسأل: لماذا نموت نحن السوريين كيفما اتفق!؟
لماذا صرنا نشعر أننا هدف محبب للموت؟ لماذا أمسى يحصدنا بوتائر أعلى من الآخرين؟ ولماذا لا يمل من ابتداع أشكال جديدة لرسم نهاياتنا؟
ولماذا مرّ عقد كامل من المجازر شبه اليومية ولم ينته مصيرنا البائس هذا؟
سيعثر الكاتب على عشرات الأجوبة، فقد كتب عن الموت وكتب عن الثورة ومضى في الحديث طويلاً عن العقدة الجيوسياسية السورية وعن صراع الأمم، ولكنه سينتبه وهو يختم حديثه إلى أن كل ما سبق حدث ويحدث!
ولكنه لم يسأل نفسه سؤالاً معاكساً يقول: لقد جرب الموت فينا كل أساليبه، ولكن لماذا لم نفنَ؟!
*المصدر: علي سفر