قبل أن تأتي الأوامر بإخلاء كراج الانتظار الكبير، تحت جسر الرئيس في دمشق، من الجموع الغفيرة المحتشدة فيه، علينا أن ننتبه إلى أنها المرة الأولى في تاريخ النظام، التي يجتمع فيها هذا العدد الكبير من كارهيه، في مكان واحد، من دون أن يقوم بتعذيبهم جسدياً كما في الفروع الأمنية، أو من دون أن يفلت عليهم قطعان الشبيحة والقوى الأمنية ليمعنوا فيهم ضرباً وركلاً، أو من دون أن يجعل قناصيه يستهدفون رؤوسهم برصاصهم القاتل أيضاً! لا حاجة لأن ندلل على هذه الفكرة بتذكر أمثلة عما حدث سابقاً من مجازر يومية أثناء العامين الأوليين للثورة، لكن ربما نحتاج لأن نلفت انتباه من يقرأ إلى أننا لا نستطيع نفي تعرض كل الموجودين هناك إلى تعذيب نفسي، يجعلنا نفكر بالكينونة العصابية الخرقاء لمن جعل هذا يحدث.
الوقوف تحت هذا الجسر، حيث تحتشد سيارات السرفيس التي تنقل البشر من وإلى مناطق سكنهم، كان مرهقاً في الأيام العادية، فكيف هو الحال بعد كل هذا الخراب؟ كيف يمكن لعائلات المعتقلين أن تقبل الوقوف عند مكان يذكرهم اسمه بمن فعل بهم كل هذا؟!
من الواضح أن القصة لم تحدث بلا تخطيط، فمن طقوس المكان أن تكون الأفعال كلها سريعة، حيث يأتي الشخص لينتظر قليلاً السيارة التي ستقله من المكان، ثم يمضي، لكن ذلك لا يمنع أن يصبح الازدحام كبيراً، طيلة ساعات النهار، فكيف حدث أن سرت بين الناس فكرة أنهم هنا سيرون أحبّتهم الغائبين؟! المكان لا يحتمل طقوساً كهذه، كما أن من سيطلق سراحهم بموجب العفو الرئاسي عن جرائم الإرهاب، لن يأتوا إلى هنا من بيوتهم، بل من اللا مكان، فلا أحد يعرف إن كانوا في سجن صيدنايا أو عدرا، أم في أقبية الفروع الأمنية، أو من معتقلات سرية ومجهولة! وهم أنفسهم لا يعرفون إن كانوا سينجون من مصيرهم التعيس، أم أنها خدعة تشبه ما عرفناه قبل أيام من شريط مذبحة التضامن، حيث كانوا القاتل يخدع الضحايا بالقول لهم أن يركضوا لينجوا من القناص المتربص بهم، ولينتهي المشهد بهم وقد سقطوا في الحفرة مضرجين بالدماء!
القفص المعدني
السوريون الذين كانوا متأكدين من أن معتقلَيهم سيُطلَقون هنا، كانوا يجرون من مسرب إلى آخر، مع مرور أي سيارة مختلفة عن السرافيس، كما أنهم لحقوا بسيارة شرطة عسكرية، من نوع القفص المعدني الذي يُحشر فيه المعتقلون والموقوفون، قيل لهم بأنها ستتوقف في ساحة المرجة!
المشهد الغرائبي ليس طريفاً، ولا يصلح لأن يحكى عنه في سياق سرد قصصي أو روائي، إنه في الحيثيات الخبرية مزعج ومفزع، فكيف سيكون لو أضاف عليه الكاتب شيئاً من القباحات المتوقعة عن عالم الأسديين!
كنتُ ذات مرة سجيناً يتم نقله في مثل هذه السيارة، تم تكبيل معصمي بالقيد المعدني الذي مرّرتُ فتحته الأخرى بعمود معدني ممتد من أعلى باب القفص حتى نهايته، لكنني حاولت أن أرى شوارع المدينة، فأصابني ألم شديد بسبب ضغط حديد القيد على يدي مع تأرجح جسمي بفعل قيادة السائق الرعناء، لكن الألم الأكبر جاء من رؤيتي للناس يعبرون ولا يبدون مكترثين بالسيارة ومَن فيها!
لكن الآن، وفي اللقطات التي صورها أحد الحاضرين، كان البشر الذين مرّت بينهم السيارة مكترثين جداً، إلى درجة أنهم ركضوا وراء العربة مسافة طويلة، هؤلاء كانوا في العام 2011 أطفالاً وعاشوا الخسارات كلها، من فقدان الآباء والأخوة في المجهول وحتى تحول حياتهم كلها فقداناً ومجهولاً، في سوريا التي باتت ثقب العدم. أمهات قرويات قدمن من المحافظات القريبة، القنيطرة، درعا، ريف دمشق، يرتدين ملابسهن التقليدية، وفجأة يجدن أنفسهن مضطرات لأن يركضن وراء سيارة مكتظة بالسجناء!
يبدو أن شخصاً ما يتابع المشهد مستمتعاً، ربما يكون الرئيس بذاته، بحسب تخمينات البعض في صفحات التواصل الاجتماعي، الذين قالوا: إن إذلال السوريين، وتحديداً عائلات المعتقلين الذين عاشوا سنوات ينقبون عن الأمل برؤية مفقوديهم بهذا الشكل الجماعي، لا يمكن أن يكون في هذه اللحظة مسألة روتينية.
تقنين الإذلاللقد تم الانتقاص من كرامتهم مرات ومرات، وأمام كل باب طرقوه محاولين الحصول على معلومات عن أولادهم، لكن سياسة النظام كانت تقتضي بتقنين الإذلال، وجعله حدثاً يومياً بالمفرّق، ولهذا فإن حشد الناس بهذه الطريقة ليس قراراً هيناً، بل هو قرار لا يمكن أن يتخذه سوى شخص واحد في البلاد! ولعل القرينة الثانية التي تدلّ على الجريمة هي المكان بذاته، تحت جسر الرئيس، بما يحمله من علامة سلطوية! إنه المكان الأبشع في المدينة كلها، رغم أنه يحوي أكبر بسطات الكتب السورية، ففيه تتحول حياة السوريين إلى حضور عابر، لا يبقى منه سوى الخواء ورائحة عوادم السيارات، وفي بعض زوايا المكان كان البعض يقضي حاجته، ليشارك برائحة النشادر في الحفلة القاتمة للعاصمة. بين الجدار الغربي للمتحف الوطني، والأرض المتروكة من بقعة دمشقية جميلة، أقيم لعقود معرض دمشق الدولي، قبل أن يُنقل إلى مدينة المعارض في طريق المطار، وقبل أن تتصارع جهات من حاشية النظام على الاستحواذ على هذه الأرض الثمينة تجارياً، ولينتهي الأمر إلى يد السيدة الأولى وهي تمتد لتأخذه، ولتشيد عليه مشروع الوردة الدمشقية، الذي توقف منذ بداية الثورة، وبقي الجزء المنجز منه قائماً، يشبه فوهة زهرة وحشية تترصد فريستها قبل أن تزدردها!
ظهر عدد غير قليل من الجموع المنتظرة في تقرير بثته إذاعة “شام إف أم” الموالية عبر السوشال ميديا ثم حذفته، احتجوا فيه على إذلالهم المتعمد، وعن كونهم قد سئموا الانتظار، وعن الأماكن البعيدة التي قدموا منها، والبيوت المتروكة من دون عناية في أيام العيد بانتظار الفرج. وفي السياق، كشف شاب أنه ينتظر والده المعتقل منذ عشر سنين، وقالت امرأة أنها تنتظر ابنها وزوجها، فيما اشتكى شاب صغير من سرقة هاتفه الجوال وسط الزحام! كانوا يحكون أمام الكاميرا وكأنهم ينتظرون أمام مؤسسة تموينية، توزع إعاشات أمام فرع الهجرة والجوازات!
إحساسهم بأن ما يجري هو تفصيل من سياق طبيعي، لا يخفى. وكأنهم يسربون لمن لا يعرف أنهم يعيشون في طقوس العادي، رغم نبرة الاحتجاج! فهنا تتساوى أكبر القضايا مع أصغرها، طالما أنها تمر تحت السقف، وهو هنا ليس أي سقف، بل سقف تحت جسر الرئيس!
كما في المعتاد من حياة السوريين، يمكن لأي منهم أن يحتج على نقص المواد، وعلى قطع الكهرباء، واختفاء المشتقات النفطية، ومن المسموح له أن يرفع الصوت عالياً، إلا قليلاً، لكي لا يصل إلى حيث “قائد الوطن”. لكن هنا، ولأن القضية مرتبطة بمكرمة “سيد الوطن”، لا بأس بترك البشر تعبّر عن غضبها، لكن ليس إلى درجة الإنفلات! ففي السياق العادي أيضاً كل شيء مضبوط ومحسوب!
كان يمكن لدورية أمن واحدة أن تمنع كل هذا. ففي بلاد الرعب، أربعة مسلحين بسحنة رجال مخابرات يستطيعون أن يخيفوا عشرات الآلاف من البشر البسطاء، لكن دمشق الروعة بسطوة هؤلاء، عاشت فوضى وإغماضاً للأجهزة عما يجري، ليومين أو ثلاثة، قبل أن تحاول وزارة العدل التخفيف من اندفاع الناس صوب المكان، عبر الإعلان أن إطلاق الموقوفين بعد “مكرمة العفو”، لن يتم في مكان محدد، بل يمكن أن يجري في أي بقعة في البلاد، فكل الأمكنة مناسبة للقيام بذلك!
ولهذا، يعاود ناشطون التأكيد على أن ما جرى في وسط دمشق، طيلة الأيام السابقة، لم يكن سوى فصل جديد، مكتوب بعناية في حكاية قهر مستمر منذ عقود، ولا يبدو أنه سينتهي!
*المدن