لم أستطع مجاراة أخوتي وصبيان الحارة في لعب الطابة أو ما يسمى كرة القدم، وبدلاً من شوط المستديرة بطريقة صحيحة كنت أضربها برأس القدم، فأطلقوا علي لقب الأفكح!
وفي وقت ما بحثت في معاجم اللغة العربية عن معنى الكلمة، بعد أن ظننتها تغالي في توصيف حالتي، فوجدت أحداً ما يقول: إن “الفكح” هو حالة مخففة جداً من “العرج”، فالأفكح بالنسبة للأعرج، كالأرمد بالنسبة للأعمى! وبعد أن شرح بالتفصيل الأعراض الفيزيائية لقدم المصاب بهذه العلة، حمدت الله بأن المسألة لم تتعد التوصيف الناتج عن الاستياء من الفشل.
توقفت منذ صغري عن مشاركة الآخرين في هذا الطقس، بعد أن أحببت هوايات أخرى، لكن شوارع المنطقة حيث كنت أعيش، وهي حي من أحياء المخالفات في دمشق، كانت فضاءات للصغار الذين كانوا يلعبون فيها كرة القدم، فيخلقون ضجيجاً لا ينتهي، ويكسرون زجاج النوافذ، وتصيب ركلاتهم المارة بالأذى، ما يولد مشاكل متكررة بين العائلات، أقلها أن يخرج الجار الذي كان نائماً بعد أن عاد مهدود الحيل من عمله، وأيقظه صوت الكرة حينما تطرق على الإسفلت وعلى الجدران، ليرغي ويزبد، وليهدد قائلاً: “إذا وصلت الطابة لهون رح شقها”، وقد تحولت هذه العبارة التي سمعت دائماً في الشوارع السورية، إلى أيقونة يكررها جيل ما بعد الثورة في الفضاء التواصلي السوري، ولكن مع إضافة تفيد التكرار فأمست: “اذا بتجي الطابة مرة تانية لهون بدي شقها!”
(أطفال يلعبون كرة القدم في حي التضامن جنوب دمشق عام 2018)
رفاقي في الحارة، وكذلك أخوتي المغرمون بالكرة، لم يصبح أحداً منهم نجماً في هذا المجال، وعلى عكس ما يقال أنه يجري في الأزقة الشعبية من ولادة المواهب البارزة في هذا المجال، لم أشهد شيئاً كهذا في سوريا، لا بل شهدت وأداً لكل المواهب، وبعد أن وجد هؤلاء أن البلاد الضيقة على سكانها وأحلامهم، لن تكون واسعة بما يكفي لشوط الكرة، هربوا منها حين شبوا وكبروا عمرياً، وفي مغترباتهم، حاول البعض أن يفعل شيئاً فنجح، بينما فشلت الغالبية والتهت بالبحث عن الكسب والعيش، لكن قلة مازالت تمارس كرة القدم يومياً وكأنها وطنها البديل عن غربتها!
قررتُ، بعد اكتشافي لوضعي الرديء في اللعب، أن أتحول إلى موقع المشاهد الذي يحب هذه الرياضة ويعرف كل تفاصيلها فصرت أشتري مجلة الصقر القطرية، كي أعرف من هي الفرق التي تستحق التشجيع، خارج الحدود، لأني لم أعثر على النادي المحلي الذي يجب أن أصبح من جمهوره! فبينما كان أقاربي يشجعون نادي مدينة سلمية المغمور، بالتوازي مع تشجيع الحماصنة والحلبيين واللوادقة وغيرهم نواديهم، لم يكن أمامي سوى التفكير بناديي الشرطة أو الجيش، لكني لم أفعل وذهبت كما غيري إلى خيارات أخرى، وفي النهاية مللت، وصرت أفحكاً حتى في تتبع أخبار الرياضة والرياضيين عموماً، ولم يشكل لي هذا أي حرج أمام نفسي وأمام مهووسيها، فالحياة كانت في مكان آخر!
لكن، هل تعتقك الرياضة في سوريا الأسدية من نفسها؟ بالتأكيد لا، فإذا كان حافظ الأسد قد قال بأنه “يرى في الرياضة حياة”، فإن علينا نحن دفع الثمن، وأن نصبح رياضيين بالإجبار، وأن تتحول دروس الرياضة الأسبوعية في المدارس إلى ما يشبه عقوبات صرنا نهرب منها، ونلتمس أعذار كالمرض أو الشد العضلي، كي لا نمارسها، لكن ماذا سنفعل حينما نُستدعى كغيرنا من طلبة المدارس السورية إلى الملاعب الرياضية، لا لنشاهد المباريات، بل لنحضر احتفالات الحزب القائد والدولة بمناسباتهما؟ لا أنسى كيف هجم علينا عنصر أمني في ملعب العباسيين بعد أن رأنا نحاول الفرار، وقام بضربي بقبضة يده على صدري، مطلقاً صوتاً زئيرياً مرعباً، وبالتأكيد ستبقى راسخة في رأسي صورة حافظ الأسد القادم من أجل افتتاح المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث في صالة الفيحاء الرياضية في العام 1985، وهو يمر برفقة جحفله بين صفين متوازيين من الشبيبيين (أعضاء منظمة شبيبة الثورة) لأراه وهو يحيينا، قبل أن يقوم الموجهون بصرفنا بعد ساعات طويلة من الانتظار!
(الرياضي الأول)
صورة الرياضة السورية في زمن الأسد الأب، وبعيداً عن التماس الشخصي بتفاصيلها، يمكن أن تختصر بدورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط في عام 1987، فتحت ستار الحفاظ على الأمن خلال انعقاد فعالياتها، شنت الأجهزة الأمنية افظع حملة اعتقالات ضد حزب العمل الشيوعي في سوريا وما بقي من التنظيمات اليسارية الأخرى، فتم سوق الآلاف إلى المعتقلات، وطيلة ذلك كانت الحواجز الأمنية تقطع اوصال المدن والبلاد، بينما كان المغني الشعبي إبراهيم صقر يصدح في معلب المدينة الرياضية في اللاذقية وصورة الأسد الاب وهو منتشٍ بما يجري.
كما أن أحداً لن ينسى قيام المدير الإداري للمنتخب السوري فاروق سرية الذي صار لاحقاً رئيساً لاتحاد الكرة، بصفع اللاعب سامر درويش أمام كاميرات البث المباشر، تعبيراً عن غضبه منه، بعد أن عوقب المسكين بالطرد، بسبب خطأ عادي في منطقة الجزاء، خلال المباراة مع الفريق التركي!
في سنوات الدراسة الجامعية، بات علينا تعرية الجزء الأعلى من أجسامنا، كي نركض، في زمهرير كانون الثاني، في المعسكرات الشتوية المفروضة قسراً كجزء من مواد التدريب العسكري الجامعي! أو في قيظ شهر آب في التدريب الصيفي في معسكرات الضمير شمال شرق دمشق!
(من مباريات الدوري السوري)
وصولاً إلى دورة الأغرار في الخدمة الإلزامية، التي تم سوقي إليها مكبلاً بعد تخلفي عن دعوات الالتحاق لسنين طوال، حيث كان علي اختصار المعاناة مع الجري، وسط الشتائم والإهانات، الموجهة بشكل رئيس للمجندين الجامعيين (المثقفين بحسب تسميتهم في قاموس الجيش) من خلال رشوة ضابط الأمن، الذي قام بفرزي للعمل المكتبي، مع إمكانية الانصراف يومياً إلى المنزل، بعد الظهر، كي لا ينتهي مصيري للتغطيس في الجاموقة (حفرة مليئة بالسوائل والاوساخ يتم معاقبة المجندين فيها) على يد أحد المدربين.
المعاناة الناتجة عن ممارسات الضباط وصف الضباط تجاه المجندين، في هذه الدورة، كانت كافية لبلوغ بعضهم مرحلة طلب الموت انتحاراً، للخلاص من الأذى النفسي والبدني الذي يتعرضون له! وهكذا من شرفة عالية في مقر الكتيبة، كنت أرى ما يحدث في الساحة، ثم أهرب مع المفيشين (المفيش هو من دفع النقود لتجنب الحضور) من أمثالي إلى شرب المتة والقهوة والتدخين، وقد شاءت الظروف أن تجري في يونيو، حزيران من عام 1998 دورة كأس العالم في فرنسا، فتحولت مبارياتها إلى مادة تسليتنا بعد انصرافنا من “الجحيم”، فنمضي أنا ومجموعة من الإعلاميين والفنانين الذين نؤدي الخدمة معاً، إلى حيث نشرب البيرة، ونتابع المباريات، بإيقاع يغالي في التماهي مع المونديال، وكأننا نعيشه في باريس أو ليون او مارسيليا!
(ملعب العباسيين 2019)
هكذا، أستطيع الادعاء بأن كأس العالم لكرة القدم قد أنقذ حياتي، أو على الأقل منحني بعض البهجة في أسوأ الأوقات التي يعيشها السوري!
المنتخب الوطني السوري، لم يمنح السوريين في المقابل أي بهجة مكتملة في حياته، فقد صار وعلى مدى عشرات السنين أيقونة الفشل السوري على كافة المجالات، ودون الدخول في سرد محطات تاريخه البليد، يمكن الاكتفاء بتأمل حاله في العقد الأخير، بالتوازي مع التحديق بما ألت إليه الملاعب الرياضية بعد تحولها إلى مقرات لقوى الأمن والمدرعات، وصارت بعض صالاتها مقرات للاعتقال بحسب ما يروي ناشطون، لكن الشيء المؤكد أن صورة المنتخب هي ذاتها صورة ملعب العباسيين المتداولة قبل أيام، حيث اختفى العشب الذي حل بعد طبقة التارتان، فظهرت أرضه، محفّرة، وكأنها أرض معركة، وقد نشر كثيرون صورة تجمع لقطة هذا الملعب مع آخر قطري تجري فيه ألعاب المونديال، لإيضاح الفرق بين المصيرين!
التحسر والافتتان بعقد المقارنات، لا يولد من فراغ، بل هو في الحيز الشعبي نتيجة حتمية لغياب الأفق المأمول، هذا في الأوقات الطبيعية، فكيف يكون الحال في وضع كارثي، كما هو الواقع في سوريا المحكومة من عائلة الأسد؟
*المدن