علي سفر: أوطان مستعملة

0

طالبني أصدقاء بالكفّ عن ارتياد متجر جمعية خيرية محلية، وذلك بعد أن قضيت أياماً أنقب في أقسامه عن اللوحات والتحف، وجدت خلالها أشياء جميلة جداً، يندر أن يجد المرء مثلها بأسعار قليلة، ولاسيما تلك القطع الشرقية، السورية تحديداً، كعلب الموزاييك، وبعض الأواني النحاسية، والسجاجيد الصغيرة.

استغربت ما طلبوه، إذ إنني لم أشعر على الإطلاق بأنني مهووس، أو مصاب بعارض نفسي “نوستالجي”، وما زاد في الفارق بين ما رأوه هم في جولاتي المتكررة، وبين ما قمتُ به فعلياً، أنني أعرف أشخاصاً، لا يمارسون ذات الممارسة فقط، بل إنهم يتكلفون عناء السفر بسياراتهم إلى مدن أخرى، قريبة وبعيدة، سعياً ليس وراء التحف والقطع الفنية، بل أيضاً وراء القطع الكهربائية، والأثاث القديم، وأشياء أخرى، كأدوات المطابخ القديمة، والثياب والأحذية بموضاتها الآفِلة!

لستُ، مثل هؤلاء، فأنا أزور جمعية لا تبعد عن سكني سوى ربع ساعة، وأصلاً ليس لديَّ سيارة!.

لكن، في المقابل، سأراجع نفسي، من خلال العودة إلى الماضي القريب، لأرى عَبْر المِرآة، أي تحوُّل حل بي، كسوري، عاش ويعيش لاجئاً في عدة بلدان.

عندما كنت في سورية، لم أكن من هُواة التحف والأنتيكات، بل كنت أُسَرّ بالحصول على قطعة ما، لكنني لا أبذل جهداً من أجل الحصول على أخرى، وإنما أحتفظ بما توفر لديَّ. 

ومع الوقت اكتشفت أن عليَّ معالجة ذاتي من بعض أعراض مرض الاكتناز القهري، أي ذلك الاضطراب النفسي الذي يدفع المريض إلى الإفراط في الاحتفاظ بكل كبيرة وصغيرة في منزله من جرائد ومجلات، وهذا ما فعلته قبل فترة وجيزة من الرحيل القسري عن دمشق!.

وما إن استقر بي الحال في العاصمة الأردنية عمّان أولاً، ومن بعدها مدينة غازي عينتاب في جنوب تركيا، ثانياً، وصولاً إلى إسطنبول التي احتضنتني لسنوات، ثالثاً، حتى وجدتني أتوجه صوب الأسواق الشعبية، والمتاجر الراقية، باحثاً عن بضائع وأشياء سورية! 

كان الأمر في البداية مجرد مرافقة لزوجتي أو لصديق أو صديقة. وقد عزوتُ الأمر إلى محاولة تخيلية بسيطة للبقاء أمام واجهة محلات سوق الحميدية والمرور أمام غيره، كطقس دمشقي، ولكن من بعيد، دون التورط في الشراء، في البداية، ومن ثَمَّ الغرق فيه، بعد استقرار الحال.

هناك في إسطنبول، شاءت الصدف أن أسكن قرب المكان الذي يعقد فيه أسبوعياً، كل يوم أحد، أكبر بازارات الأنتيكات في الشرق الأوسط، استفاقت فيّ هواية جمع العملات، والتي يطلق عليها اسم هواية الملوك، لكنها اقتصرت على القطع السورية حصراً، فلم تمضِ فترة قصيرة، حتى تشكلت عندي مجموعة لا بأس بها، ضمت قطعاً فضية صدرت في عام 1950، وبضع قطع ورقية نظيفة تعود لنهاية ثلاثينيات القرن الماضي، إضافة لقِطَع نادرة تحتوي على أخطاء مثيرة في السكّ!.

تتبُّع قِطَع العملة، لم يكن مجرد هواية في الحقيقة، كان استعادة لتاريخ سورية، تتجاور معه أشياء غريبة، كالعثور على علبة تبغ (باكيت) حمراء قصيرة، عندما كان سعرها 125 قرشاً، أو “بروش” لدورة ألعاب المتوسط التي جرت في اللاذقية عام 1987، أو صورة لفاطمة المغربية!.

ولعل أغرب ما مر بي، دليل مخصص لمزارعي الساحل السوري، وزعته سلطات الانتداب الفرنسي، لتدلهم فيه على أفضل طرق العناية بدود القز، من أجل إنتاج حرير أفضل!.

كل شيء عثرت عليه، عدا علبة التبغ، كان مُستخدَماً من قبلُ، وكان يعرض للبيع كقطع أنتيكات، بما فيها غطاء من الصلب، لمدفأة ماركة شمس!.

لكن، هنا في ستراسبورغ، حيث أعيش، تذهب قِطَع الأنتيكات الثمينة إلى محلات راقية، أو تُباع في مزادات عالمية بعيدة، وتتبقى أمام الجمهور قِطَع (السكند هاند)، التي يأتي بها أشخاص لم يعودوا بحاجتها، متبرعين بها، فتقوم الجمعيات ببيعها بأسعار بخسة من أجل الاستعمال مرة ثانية، مستفيدة من أثمانها في إنجاز الأعمال الخيرية.

وبين هذه القطع، وعلى هامش شراء بعض الحاجيات التي يحتاجها البيت، عثرت على أشياء سورية خالصة، بمصادفات غرائبية، كتوقف عيني أمام كتاب بالعربية هو “تكون جمهورية سورية والانتداب” لمحمد هواش (ضابط علوي، كان منفياً، رحل عام 2018)، وسط آلاف الكتب بالمنشورة باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها.

السرور بالعثور على مثل هذه الأشياء، بدأ يتبدل من شعور حميمي يتصل بالعلاقة مع تاريخ سورية، إلى محاولة لاستعادة البلد ذاتها، من الذاكرة، ومن الماضي، والراهن المدمر والمنتهك، والمفقود أيضاً، وجعله حاضراً بشكل مادي، أمام العينين، وممسوكاً بأصابع اليدين!.

ثَمَّة متاجر تبيع قِطَعاً جديدة من الموزاييك الدمشقي، تم استيرادها من أجل بيعها بأسعار عالية، للمصابين بمرض الحنين، أو لأولئك الذين يفضلون إهداء الفرنسيين قِطَعاً فنية سورية، لكنها لم تُغْرِني، ليس لأن قيمتها المادية أكبر من قيمتها الفنية فحسب، بل لأنها مصبوغة بروح التجارة، التي تقوم على تقديم السلع للمستهلكين.

بينما، كانت القِطَع التي تُباع كـ (سكند هاند)، تجذبني أنا وغيري، رغم أنها قد تكون متضررة، أو محطمة في إحدى زواياها، ففي كل واحدة منها، كان ثَمَّة لمسة مختلفة، مبعثها، أصحابها، أي أولئك السواح الذين زاروا بلادنا في وقت ما، واقتنوا منها، أشياء مختلفة، لكنهم إما فقدوا الاهتمام بها بعد سنين طوال، فقرروا تركها، والتبرع بها، أو رحلوا عن الدنيا، فقام ورثتهم بمنح أغراضهم للجمعيات، بدلاً من رميها، أو تركها في الشارع! هذه القِطَع، التي غرقتُ في تتبُّعها، وحاولت الحصول عليها، كانت هي الوطن المفقود، لكن المطروح للاستعمال مرة ثانية!.

الفكرة مغرية، وجذّابة للتأمل، ورغم أن قوامها لطيف، ومما تحبه النفس، وهو الأنتيكات، واللوحات، والموزاييك، والكتب، وغير ذلك، لكن مؤداها مؤلم، وغير مُسالِم، إذ كيف يمكن للمنفي، أن يستعيد بعضاً من تفاصيل منبته، بعد أن تم استعمالها سابقاً، من أجل إعادة إحيائها، وبثّ الروح فيها، دون أن يمد يده إلى داخل روحه، فيتلمس الأمكنة الفارغة هناك، حيث كان ثَمَّةَ أشياء وتفاصيل سابقة، تم “شلعها” بقوة وعنف شديدين، دون أن يستطيع أحد معالجة الأضرار الناتجة عن ذلك؟!.

كيف يستطيع أن يمرر أصابع يده فوق النتوءات الحادّة، التي أحدثها مثل هذا الفعل، دون أن يجرحها، ودون أن يزيد في الأذى الروحي الناتج عن فقدان الأوطان والأمكنة؟!.

ومن جهة تالية، أيُّ تصرُّف هذا الذي يقوم به المنفيون، وهم الذين تطالبهم الدولة المضيفة بالاندماج، فيرتكبون العكس تماماً؟ أي القيام بالعودة إلى البلاد من خلال أغراض حياتهم، فهم لا يشترون فقط خبزهم السوري، أو بهاراتهم، وأطعمتهم المحلية الخاصة، بل ويصرون على تكريس ملامح حضورهم في منازلهم أمام ضيوفهم، من خلال هذه التفاصيل.

إنهم في أوطان ليست لهم، بل هي أمكنتهم الثانية، لكنهم في غالبيتهم، يعانون من مرض الاكتناز القهري لبلدانهم، لا يستطيعون تركها، فلا ينسون لغاتهم، ولا حتى لهجاتهم المحلية المقعرة، والفجة، ولا يتعلمون لغات بلاد المنافي، ويقومون بدلاً عن ذلك باستعادة قطع بيئتهم الأصلية، من رفوف الاستعمال المتكرر، ليعيشوا حياتهم الثانية أيضاً! كان الشاعر أحمد مطر، قد صاغ في قصيدة مطلعها “قلت للحاكم”، مقطعاً شعرياً متفرداً، ربما يصلح للتعبير عن سُوء المعادلة التي يعيشها اللاجئون،

يقول فيه مخاطباً طاغيةً شرقياً، وما أكثرَهم: “قلتُ: هل كان لنا عشرة أوطانٍ وفيها وطن مستعمل زاد عن حاجتنا فوهبنا لك هذا الوطنا؟”

لقد فقد السوريون “سوريتهم”، وفَوْقها، كل الأوطان الخيالية، التي كانوا يتوسَّلون فيها صناعة الوجود والتعبير عن الذات، وصاروا في أنحاء المعمورة أسرى لتفاصيل يصنعونها، كل على طريقته، ووَفْق مذهبه في الحياة اليومية، فبعد ضياع كل شيء، ماذا لدى كائنات تعيش على تجميل قِطَع الذاكرة، من سُبُل، كي تُبقي على بلادها حاضرة، سوى أن تُلملِمها من هنا وهناك، حتى وإن جاءت معطوبة في رفوف (السكند هاند)؟!

*نداء بوست