علي سفر:أوبرا دمشق التي صارت داراً للأسد

0

حدث هذا في المبنى الذي انتقلنا إليه حديثاً في العام 1989، بعدما درستُ سنة سابقة في المقر القديم في دمّر، وكانت المناسبة مضحكة إلى حد ما، فهذا الرجل الذي اعتُقل في وقت ما خلال الثورة وقيل إنه مات تحت التعذيب، كان يحاول آنذاك منع أحد الزملاء من التصوير بحجة أن وجود المكان في هذا “المربع” يجعل العملية بحاجة إلى موافقة أمنية!

كانت هذه البقعة الواقعة على الضفة اليمنى لنهر بردى، بالنسبة للقادمين من طريق الربوة، إسطبلاً للخيول بحسب المرويات، ما يستوجب الاحتراس من الأفاعي المعمّرة. وفعلاً، حدث ذات مرة أن قتل الموظفون والطلبة حنشاً طويلاً، لكن الخوف من هذه الكائنات الخفية، لم يكن يعادل أحساسنا بالتهديد المخابراتي الظاهر والعلني، والذي سرعان ما بات حاضراً في حيواتنا بعد سلسلة من الاستدعاءات الأمنية لبعض الطلبة ممن ينتمون أو يتنفسون على الأقل في أوساط اليسار السوري.

لكن فرضية وجودنا في المربع الأمني، وبالنظر إلى وجود مؤسسات غير أمنية فيه، كانت تبدو غير مُقنِعة. فنظرة سريعة لخريطة ساحة الأمويين، تظهر أنها تشمل مبنى مكتبة الأسد أيضاً، ومبنى آخر ملاصقاً للمعهد كان العمل يتسارع من أجل إنجازه، هو مبنى الأوبرا، الذي كان الموسيقار الراحل صلحي الوادي (1934 – 2007) وخلال سنوات توليه عمادة المعهدَين يؤمّل الطلبة والمدرّسين فيهما على حد سواء بأن مشكلة التنازع على القاعات ستُحلّ بعد افتتاح المشروع العتيد، إذ ستنتقل تدريبات الفرقة السيمفونية الوطنية إلى هناك!

مات صلحي الوادي من دون أن يستفيد كمنشط موسيقي، إذ غاب عن المشهد منذ العام 2002 عندما سقط على خشبة المسرح مغمياً عليه إثر جلطة دماغية، وانتقلت الفرقة، ولم تُحلّ مشاكل المعهدين!

كان اسم المشروع في البداية هو “المسرح القومي”، لكنه تحول بعد فترة من بدء العمل فيه إلى “دار أوبرا دمشق”، حين رأى أعضاء في القيادة أن المسرح السوري الذي كان وما زال مصاباً ببعض المعارضة ومناكفة السلطة، لا يستحق بناءً جميلاً كهذا، ومع اقتراب افتتاحه وجد أصحاب القرار أن عاصمة الأمويين لا تستحقه، فهي مرتع البرجوازية والرجعيين!

وبالتالي فإن الشخص الوحيد الذي يستحق أن يحمل المكان اسمه، هو الأسد، موزعاً بين الأب وابنه، حيث إن افتتاح “الصرح” تأخر حتى العام 2003، ثم تأخر سنة إضافية بسبب حريق عملاق طاوله وظلت أسبابه الحقيقية مجهولة حتى الآن، فلم يُعرف من التفاصيل شيء سوى ذلك “الماسّ” الكهربائي الذي لطالما تجول في تاريخ المؤسسات السورية.

هذا تلخيص سريع لحكاية “دار الأسد للثقافة والفنون”، التي احتفلت إدارتها قبل أيام بالذكرى الـ19 لافتتاحها، عبر فعالية مسلوقة على عجل، هدفت إلى ترسيخ دور الدار بوصفها منبراً ثقافياً فاعلاً في المشهد الثقافي السوري، لا سيما من خلال تصريحات معتادة من موظفيها كمديرها العام الموسيقي أندريه معلولي، أو وزيرة الثقافة لبانة مشوح التي باتت تستغل كل الفعاليات من أكبرها إلى أصغرها من أجل النفخ السياسي المادح للنظام، والدعاية فعلياً لنشاطها وحضورها بغية زيادة نقاطها في دفتر المرضي عنهم.

المثقفون والصحافيون الذين يحاولون الحفاظ على مسافة من النظام، يسمّون هذا المكان في ساحة الأمويين، “دار الأوبرا”. لكن وجوده بين مبنى الأركان العامة للجيش والقوات المسلحة، وبين مبنى الإذاعة والتلفزيون، أي وسط الحراسات المشددة، سرعان ما يعيد الزائر إلى حقيقة أنه في سوريا المحكومة من قبل البعثيين منذ العام 1963، وأن التسمية الرسمية هي “دار الأسد”، وأن ثمة استتباعات لهذا الأمر، تبدأ من أن حرمة المكان وخصوصيته الراقية تلاشت شيئاً فشيئاً منذ فتح أبوابه وحتى اليوم، وصولاً إلى أن وظيفته ستتبدل كلما احتاج أحد لمنبر تحتشد أمامه الجموع. فهو مسرح كبير يصلح لافتتاحات المهرجانات السينمائية والمسرحية، وفيه ستعرض الأفلام السينمائية التي تعرضها المؤسسة العامة للسينما في تظاهراتها الموسمية، من دون أن يسأل أحد عن الصالات السينمائية الأخرى المفقودة في دمشق! وعن دور المؤسسة ذاتها في تدمير اقتصاد الصالات الباقية، والتي صارت إحداها منذ فترة وجيزة معرضاً للمفروشات!

وهو يصلح أيضاً للحفلات الخطابية، ويمكن أن ينافس في هذا مسرح جامعة دمشق أو مسرح مكتبة الأسد، لكنه لن يستضيف عروضاً أوبرالية كما تفترض وظيفته المعلنة، بل سيستعيض عن ذلك بأوبريتات هزيلة، وعروض راقصة، واحتفالات مكرسة لمجرمي حرب، وحفلات لمغنين أكل الدهر عليهم وشرب، مثل هاني شاكر الذي تحولت حفلاته في السنة الماضية إلى حدث “وطني” لا بد من وضعه في سجلّ الهزال الثقافي السوري!

ذات يوم، تلاسَن أحد موظفي الدار مع عدد من المثقفين الفاعلين، حينما كانوا يضحكون أثناء مرورهم في بهو الدار، وكانت حجة إدارة المكان التي يقف على رأسها الدكتور نبيل اللو، صاحب كتاب “قواعد السلوك الراقي”، بأن الضحك والحديث بصوت عالٍ هو فعل يتناقض مع حرمة دار الأوبرا النخبوية!

والقضية التي أخذت صدىً وردّاً كثيرين في وقتها، كانت تشير إلى محاولة مفضوحة وساذجة لإكساب الحيز المنتهك سلطوياً، احتراماً إجبارياً. فتُذكَر في السياق، التعليمات الخاصة بارتداء البدلات الرسمية، إضافة إلى دليل سلوكي على الزائر أن يتبعه، ليشعر إجبارياً بأنه غادر هذه البقعة من الأرض الدمشقية بقدرة “المخلوقات الفضائية” التي تتحكم فيها، ووصل إلى إحدى العواصم الأوروبية!

لكن زمن الفعالية سرعان ما ينتهي ليعود السوريون إلى دمشقهم المحروسة، وليكتشفوا أنهم ما زالوا حيث كانوا.

ومنذ العام 2011، ما عاد هناك مجال لاستخدام وجوه زائفة لأي شيء. فالجيش السوري ليس كذلك، بل جيش عائلة الأسد. والصحف والإذاعات والقنوات، إعلامهم، وكذلك المؤسسات الصحية، والتموينية، وغيرها، ما يستوجب أن تكون مؤسساتهم التي تحمل اسمهم في طليعة المدافعين عن العائلة، وهكذا..

إن مبنى دار الأوبرا، الذي تحدث عنه ثروت عكاشة، عندما كان وزيراً الثقافة في عهد الوحدة بين سوريا ومصر، على أنه من أبرز ملامح الخطة الثقافية المأمولة للإقليم الشمالي، والذي يَنسِب البعثيون لأنفسهم الفضل في حفر أساساته، انتهى أخيراً، كما البلاد كلها، في أيدي الأسديين. لن يتسع المجال هنا للتذكير بالفعاليات غير الثقافية وغير الفنية التي استضافها، لكن التوقف عند طبيعته يعيدنا إلى المربع الأمني ذاتها، مجازياً وجغرافياً!

*المدن