علي سفر: آلات تعذيب في معرض ترفيهي

0

غريبة جداً الدوافع التي تجعل مركزاً ترفيهياً كالقرية العالمية في دبي يختص بتقديم التسلية للعائلات، يستضيف مجموعة من أبشع أدوات التعذيب عَبْر العصور، مقدَّمة ضِمن مجموعة متحف “ريبليز” الأمريكي الذي يرفع شعار “صدق أو لا تصدق”!.

والغرابة مَبْعَثها، ليس السعي وراء المجموعات الغرائبية، ومنها هذه الأدوات، وهذا هو اختصاص قديم لهذه الشركة، بل هو القدرة الهائلة لدى صناع المعرض على وضع طبقات من السيلوفان غير الشفاف بين الموضوع الذي يقدمونه هنا وبين أثره على نفوسهم، وصولاً إلى قدرتهم -أو لنقل وبصراحة شديدة: وقاحتهم في تحويله إلى مادة متداولة بشكل استثماري، وفجورهم في جعله مادة للترفيه!

كانت فكرة التطهير من أثر وقائع التعذيب على الإنسان، حاضرة ضِمن المهمات التي يمكن أن تؤديها أعمال مثل أدب السجون واللوحات الفنية والوثائقيات والبرامج، بالإضافة إلى غايات التوثيق، والخطاب الأساسي الذي يقول بأننا نروي هذه التفاصيل كي لا يحصل هذا مرة أخرى.

كما أن تعليب هذا الإجرام، ورصفه ضِمن سياق تشكُّله تاريخياً، جرى الاشتغال عليه في مؤلفات وكتب مهمة، مثل “موسوعة العذاب” للمحامي العراقي الراحل عبود الشالجي، التي صدرت عن الدار العربية للموسوعات، في بيروت عام 1999، وقبلها كتاب هادي العلوي “من تاريخ التعذيب في الإسلام” الصادر عن دار المدى عام 1986 وأيضاً كتاب تاريخ التعذيب لبيرنهاردت ج هروود الذي ترجمه الراحل ممدوح عدوان، والذي صدر بطبعات متعددة كان آخِرها عام 2017 عن الدار التي تحمل اسمه.

وفي الحقيقة، ما زال الحديث في موضوع “التعذيب في السجون” يبعث آلاماً جسدية ونفسية هائلة لدى عدد كبير من أصدقائي، ممن قبعوا لفترات طويلة في سجون الأفرع الأمنية خلال حكم الأسد الأب.

الصور المتراكمة في العقل عما يحدث في مَسالخ الموت تلك، تنشط فجأة، وتتراصّ على عينَيْ مَن يذكر، وكأنها تحدث الآن، فيشعر بأن الرضوض والكدمات، ورغم مرور وقت طويل على حدوثها، ما تزال باقية، وإن اختفت آثارها!

كثير من هؤلاء، وهم ناشطون من قوى سياسية متعددة، توقعوا أن يكون ما عانوه -بين نهاية سبعينيات القرن الماضي، وبين بداية الألفية الجديدة، حيث تولى بشار الأسد الحكم وراثة عن أبيه في سورية- جزءاً من حقبة سوداء، تنتهي، ستغادر معها حكايات الأذى الجسدي الذي تعرضوا له ساحة المرويَّات الشفوية، وكذلك المؤلفات الأدبية المشهورة باسم أدب السجون، لتصبح مجرد أَسًى، عَبَرَ في تاريخ البلاد، وانتهى! 

لكن الحقيقة المرة أن شيئاً لم ينتهِ، إذ إنه منذ اندلاع الثورة السورية 2011، عاش ملايين السوريين بتجاور مع تجارب مئات الآلاف منهم، اعتُقلوا، وعُذبوا، فنجت أعداد منهم، ومات بعضهم، واختفت آثار آخرين، فيما لم يزل هناك في مجاهيل القتامة والمرض، أعداد غير معلومة، تنتظر مصيرها! وفي المحصلة، أمست سَرْدِيَّة التعذيب في المعتقل حاضرة في الحالة السورية، وبما يفوق قدرة الكائن البشري على تحمُّلها، ويمكن بقليل من الجرأة، وعدم الخوف من الأثر الدامي الذي يتركه الأمر في النفوس، اعتبار سورية حلبةً لعرض فنون القتل، وربما معرضاً مفتوحاً لأساليب الموت، خاصة أن أمكنة التعذيب -وكما تشير تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والعربية والدولية- ما زالت في مكانها، ويعرفها القريب والغريب، وما زال القائمون عليها يمارسون عملهم بهِمَّة وحماسة، وكأن هذه البلاد لم تشهد ثورة أو حرباً دامية، ومذابح تدحرجت في كل الاتجاهات!

نتحدث هنا عن كوارث شخصية عاشها سوريون، وتحولت مع الوقت إلى ملمح يلازم الشخصية السورية الخائفة دائماً من أن يتم اقتيادها إلى مركز مخابراتي، وبعد كل ما جرى، بات من المفهوم أن أيَّ حلّ للأزمة، لا يبدأ بتفكيك منظومة الإرهاب والتعذيب، سيكون منقوصاً وغير ذي جدوى، فإذا كان هناك مَن يعتبر أن عرضاً لآلات الموت هو عمل ترفيهي، في منطقة مشتعلة ومليئة بالمآسي، بعد عَقْد دامٍ، تسببت به أنظمة عسكرتارية فاسدة، فإن هرولة البعض إلى التطبيع مع النظام، وفتح نوافذ وأبواب لفك الحصار عنه، دون النظر إلى عدم تقديمه أيَّ مقابل من الخطوات التي جرى تثبيتها ضِمن المبادرة الأردنية حِيال سورية، تعني وبشكل فاقع ليس القبول والترحيب بجرائمه فقط، بل الشروع في التجوال أمام لوحات مَآسي السوريين، برفقة القهقهة والمتعة، كما يفعل المَهْوُوسُونَ والقَتَلَةُ السعداء بين الجثث!

نداء بوست